ليس المقصود انتظار السوريين الضربة الثلاثية التي حدثت قبل أيام، لكن مع ذلك يمكن اعتبار ذلك الانتظار كناية عن انتظار آخر متصل به. حدوث الضربة، في الحدود التي حصلت ضمنها، كان أمراً متوقعاً لأن الرسالة أصلاً لا تهدف إلى تغيير المعطيات الأساسية على الأرض، بخلاف انتظار السوريين لما ستثمر عنه تلك المعطيات. بعبارة أخرى؛ نحن إزاء قوى دولية وإقليمية تمسك بالملف السوري، وتقسيم مناطق النفوذ يشوبه عدم استقرار، مثلما قسم من التحالفات والعداوات الموجودة الآن لا يبدو راسخاً بما يكفي للبناء عليه.
مثلاً في التعقيب على الضربة كان هناك اختلاف بين ما أعلنته أنقرة والموقفين الروسي والإيراني، وقبيل الضربة ظهرت تباينات بين الموقفين الفرنسي والأمريكي، فضلاً عن إحجام ألمانيا عن دعمها. الحديث عن الانسحاب الأمريكي من سوريا يبدو أنه سيبقى متأرجحاً بين رغبة ترامب في الانسحاب ورغبة صقور إدارته في البقاء، مع تلميح البيت الأبيض إلى إمكانية البقاء في حال قرر الحلفاء المشاركة بقواتهم وأموالهم. أيضاً الحديث عن رغبة غربية في فك الارتباط بين موسكو وطهران يبرز إلى العلن ليتراجع بعدها، والضغط الإسرائيلي أو الخليجي في هذا الاتجاه لن يكون مثمراً من دون إسناد أمريكي قوي، مع الاحتفاظ بقدرة إسرائيل على إشعال الحرب عندما يناسبها ذلك.
إننا نتحدث عن لاعبين خارجيين فحسب، بينما لا يملك السوريون سوى انتظار ما ستسفر عنه التجاذبات التي ليسوا سوى أداة لها. قد توحي الصورة بأن تنظيم الأسد في منجى من التهميش التام، وهو كذلك قياساً إلى المعارضة، إلا أنه في ما يخص القرارات الكبرى “بما فيها القرار المتعلق بمصيره” لا يملك سلطة فعلية يتشارك فيها مع حُماته. في كل الأحوال هذا لا ينطبق على موالي الأسد الذين يدركون أنه باقٍ بموجب الحماية الدولية، ولا يملكون يقيناً حول مدة الحماية هذه، بل من المرجّح أن يدرك قسم كبير منهم أنه سيكون موضوع صفقة دولية وإقليمية في وقت ما من دون أن يمتلك قدرة على مقاومتها.
يتوقع الزميل ساطع نور الدين أن تمضي “سوريا نحو النمط الكوري الشمالي” بإشراف روسي-إيراني، وأن الثورة الثانية محكومة في انتظار ذلك. وتستحق فكرة الانتظار وقفة مستقلة لأن ما يفعله السوريون لا يتعدى الانتظار المرافق للعطالة، على الأقل منذ بدء التدخل العسكري الروسي الذي قوبل برضا غربي. وجود هيئات معارضة لا يعني شيئاً يُذكر في هذا الميزان، بما فيها هيئة التفاوض التي شُكّلت بإرادة دولية ناجمة عن تفاهمات فيينا، والمسألة لم تعد في إطار وجود معارضة تخضع لضغوط دولية أو إقليمية، أو حتى وجود معارضة مُستلبة تماماً إزاء الدول الراعية لها. إننا إزاء معارضة لا تفعل شيئاً على الإطلاق، ولا يُؤخذ رأيها من أية قوة تتدخل في الشأن السوري، وأقسى من ذلك أنها ميؤوس منها تماماً في نظر الغالبية الساحقة من مؤيّدي الثورة.
من دون أن نأخذ بالحسبان حالة الانتظار سيصعب فهم وجود هذه المعارضة، وعدم وجود تحرك للانقلاب عليها، فالمسألة لا تتوقف فقط عند التسليم بخروج الملف السوري من أيدي أصحابه الأصليين. هما بالأحرى وجهان لمعضلة واحدة، لكن شدّة إمساك الملف السوري خارجياً، وعدم وصول هذا الإمساك إلى مقاصده النهائية، يمنعان تفكيراً سورياً في المبادرة ما دامت هذه المبادرة ستصطدم بعدم وضوح اللاعبين الخارجيين. على سبيل المثال؛ سوريا اليوم ليست تحت الاحتلال الروسي-الإيراني-الأسدي فحسب، ولا يخضع ما تبقى منها للاحتلالين الأمريكي والتركي فحسب، هذه القوى الخارجية جميعاً ليست متفقة على صيغة لبقائها، وغير متفقة أيضاً على صيغة لرحيلها أو على صيغة لتقاسم النفوذ في ما بينها.
حتى ما يشاع عن إعادة تدوير الأسد يبقى في حيز التوقعات العامة، فهذه العملية ضمن إشراف روسي-إيراني تعني تطبيق نموذج شبيه بالنموذج الكوري الشمالي، من حيث عزلة الأخيرة لا من حيث بطشه ووحشيته اللذين لا يحتاج تنظيم الأسد لمعلّم فيهما، ومن المستبعد قبول دول الخليج بدعم مخطط تشارك إيران في إدارته. أما إعادة التدوير بمشاركة الغرب فتعني اقتراباً من المعايير المقبولة غربياً، ولو على صعيد بعض المظاهر أو مشاركة شكلية لبعض “المعارضة” في السلطة، هذا ما يُرجّح أن يكون أيضاً في حال المشاركة التركية في تسوية من هذا القبيل، لأن أنقرة ستحاول ضمان حصة للمعارضة المقرّبة منها بحيث لا تخرج الأولى وكأنها فعلت كل شيء خدمةً لبقاء تنظيم الأسد على ما هو عليه.
الفارق بين الحالتين السابقتين أن إعادة تدوير الأسد روسياً وإيرانياً فقط ستُبقي على جبهة خصومه كما هي، بينما سيتكفل المستقبل بفرز سوريين إضافيين كانوا موعودين بهذا النصر، وسيكتشفون أنهم دفعوا ثمنهم من دون أن تكون لهم حصة في ثماره، أو بالأحرى سيكتشفون أن ثماره ستُقبض من حسابهم أيضاً؛ هذا لا يعني تلقائياً نشوء جبهة جديدة من الخصوم تضم السابقين واللاحقين. أما في الحالة الثانية فمن المرجح أن تتخلخل الجبهة الحالية لخصوم الأسد، إذ سينضم قسم منها لتسوية برعاية غربية أو برعاية تركية، وفي حالة الرعاية التركية قد يعني ذلك استئنافاً لوساطة أنقرة القديمة بين بشار الأسد والإخوان المسلمين وبعض التنظيمات الإسلامية الذي نشأ بعد الثورة.
قد تكون القضية السورية معرّضة لوجه شبه بنظيرتها الفلسطينية، من حيث وجود كتلة ضخمة جداً في الخارج من ضحايا التهجير والتغيير الديموغرافي، إلا أن التشبّه بتجربة منظمة التحرير الفلسطينية “مع حفظ فوارق عديدة من بينها التوقيت” يقتضي علاقة وثيقة بالداخل السوري، تحديداً بالمتضررين من الوضع المستجد. انتهاء سوريا التي نعرفها يستوجب استكشاف سوريا الجديدة، مع أنها لم تتشكل بعد، ولم تأخذ طريقها إلى الاستقرار الاعتيادي القسمةُ بين المنتصرين حقاً والمهزومين ضمن موالاة الأسد نفسه. ولئن كانت هذه العوامل تتقصى دوافع العطالة الحالية فهي بطبيعة الحال ليست تبريراً للعطالة، إذ يمكن دائماً، بل تقتضي السياسة دائماً، عدم انتظار المستقبل وإنما وضع تصورات استباقية ومحاولة التأثير فيها. هذا ما يبدو مستحيلاً الآن، على الأقل مع وجود هيئات المعارضة الحالية.