حذام زهور عدي
قد لا يعي المحتفلون بالانتصار حجم السقوط الذي هم فيه، وقد يعي بعضهم أن دمارًا ما قد حلَ بالوطن، لكن ديماغوجية أجهزة الإعلام المختلفة، الأسدية والإيرانية والروسية وأجهزة الحلفاء اللبنانيين، كفيلة بغسل أدمغتهم وتهوين أمر الدمار البشري والحجري والإيحاء بأن كل شيء سيصبح أفضل مما كان قبل التمرد “الثورة” والخراب، وتمضي فتعتبر تنافس الشركات العالمية حتى من الدول المعادية للحصول على فرصة للاشتراك بإعادة إعمار سوريا طمعًا بالأموال التي ستتدفق عليها مؤشرًا للانتصار العظيم، وتبالغ في تصوير ذك التنافس بل توحي بأن عقودًا أبرمت منذ الآن ومبالغ رُصدت ولم يبق سوى الاحتفال بوضع حجر الأساس، وكأن تجاهل الدول العالمية لتدمير سوريا كان من أجل تشغيل شركاتها المفلسة بإعادة الإعمار!
وإمعانًا بشطف العقول عن رؤية الوقائع، تضرب تلك الأجهزة الأمثلة من الحروب العالمية وما حل بألمانيا واليابان ثم البوسنة وبيروت، بل بالمدن السورية نفسها التي دمرها النظام نفسه سابقًا، فها هي حماة اليوم، قد علا عمرانها بعدما لحق بها من خراب وملأ البشر شوارعها، تعطي المثال الأكبر على تصويب وترميم كل ما مضى، وكأن شيئًا لم يكن… فلماذا لا ترتفع الزغاريد فرحًا بالانتصار؟!
قد يكون من العبث جدال ما تبثه أجهزة إعلام الأسد وحلفائه من تبريرات وتغطية وقائع الهزيمة الأكبر للوطن في تاريخه كله، وليس مغالاة وصف ما يدعونه انتصارًا بالهزيمة التامة، هي تامة لأن أحدًا لم ينتصر فيها.
في البدء يكبر السؤال.. على من كان الانتصار؟ وأين؟ وكيف؟ ومن المنتصر؟ وما ثمن ذلك الانتصار المزعوم؟ وهل جرت معارك بين فئتين متساويتين تسليحًا وإعدادًا أو حتى متقاربتين كما حدث في حرب حزيران مثلًا أو في حرب تشرين حتى يُعتبر ما جرى هزيمة لطرف وانتصارًا لطرف آخر؟
في أجهزة الإعلام العربية والسورية تحديدًا كانت مفردة “انتصار” تعني الهزيمة المرة، ففي حرب 1967 كان احتلال إسرائيل للجولان هو الانتصار الأكبر لثورة 8 آذار، لأنها لم تسقط ولم يسقط نظامها حتى لو احتل الأعداء أغلى بقعة من الوطن وأشدها قدرة استراتيجية بمواجهة العدو.
وفي 1973 كان الانتصار العظيم بإعادة جيب القنيطرة مقابل السكوت عن الجولان كله والتعهد بحماية خطوط وقف النار إلى أبد الآبدين، حتى تتحول إلى حدود عالمية معترف بها.
وفي الثمانينيات كان الانتصار على الإمبريالية والصهيونية وذيلهما الرجعية من خلال تدمير مدينة حماة وقتل حوالي أربعين ألفًا من سكانها، كما يقال.
إنه سجل انتصارات لا يُقاوم، واليوم يتابع النظام الأسدي ويُزين انتصاراته على الشعب السوري والوطن السوري بتدمير سوريا جيشًا ومجتمعًا واقتصادًا ودولة وبنى تحتية وفوقية، وجلب من هب ودب من شذاذ آفاق العالم لتكوين شعب موال أعمى، بعدما تجرأ الشعب السوري على فتح عيونه ورؤية رئيسه، الذي فُرض عليه، عاريًا، وارتكب جريمة التصريح العلني بأن عُريه فاضح.
إن تسليم الوطن للدول الأجنبية تتقاسمه كل دولة وفق مصلحتها، وفقدان الاستقلال الوطني وزرع نزاعات فيه لا تنتهي إلا أن يشاء الله، هو الانتصار الأكبر الذي يستحق الاحتفال، وإن الدماء السورية للموالين والمعارضين ولأبرياء الشعب من الأطفال والنساء والشباب والشيوخ التي أريقت أنهارًا كلها كانت فداء الكرسي الذي بقي العاري مثبتًا نفسه عليه.. أليس هذا أفضل من الثورة التي انتصرت بعد هزيمة حزيران، وأفضل من احتفال الوالد المبجل بانتصاره الذي أهله بعد خسارة الجولان لأن يترفع من وزير دفاع إلى رئيس أبدي، يفديه المواطنون بالروح والدم.
الابن الآن يحتفل بفقدان سوريا كلها، ومن يدري فقد يصبح يومًا رئيسًا للعالم كما قال أحد منافقيه يومًا ما في مجلس الشعب، وها هو يُقدم ابنه حافظ الثاني منذ الآن ليقود الانتصارات من بعده، لكن المشكلة أنه لم يبق شيء من سوريا ليساوم عليه ويحقق الانتصارات من خلاله إلا كرسيه وهذا هو الانتصار الذي لا يحتمله آل الأسد.
ليس من العجب أن تُتقن أجهزة نظام الأسد والأجهزة الإعلامية الأخرى المشتراة والمنافقة والمعبرة عن مصالح دولها تدليس اللغة فتحول الهزيمة إلى انتصار. ذلك شيء اعتاد الناس عليه منذ زمن، لكن العجب أن تَحتفل شريحة من السوريين بالهزيمة المدوية كانتصارٍ حقيقي!
صحيح أن السوريين اعتادوا على تجييش الأجهزة الأمنية لهم في المواسم كالبيعات وغيرها، وصحيح أن كثيرًا منهم ألفوا لغة التهديد والوعيد إن لم يلتحقوا بمواكب التهليل للانتصار العظيم، ولكن الصحيح أيضًا أن بعضًا من هؤلاء فرحون حقًا وعلى قناعة بأن مولاهم استطاع اللعب بالدول الكبرى والصغرى وحقق هدف استمراره وبقائه وأن مسؤولية الدمار والانهيار هي مسؤولية الإرهابيين الذين نازعوه السلطة… لكن وبصرف النظر عن المسؤولية العارية الواضحة هل يُدرك أولئك المحتفلون ويعترفون بوجود دماء وكوارث وخراب يستحق الحزن عليه وإعلان السواد والبكاء مدى الدهر؟ هل يدركون أن الوطن ضاع وأن سوريا ليست تلك البقعة التي يعيشون بها وأن القصر الذي اكتفى بشار به لن يسعهم جميعًا وأنهم سيضيعون مع ضياع الوطن؟
هل يعرف أحد منهم القراءة ليعود إلى التاريخ ويعلم أن أرض الشام لم تقبل غازيًا، ولم تترك غازيًا يستقر بها، بل لفظت الغزاة جميعًا مع من تعاون معهم وخان أهله وناسه؟ وأن مولاهم المنتصر هذا ليس أكثر من غاز صغير ستلفظه الشام أيضًا مهما طال الزمان أوقصر وأنهم سيضيعون معه قي مجاهل التاريخ وصفحاته السوداء؟
كما أن القانون لا يحمي المغفلين، كذلك تاريخ الشعوب لا يغفر للجهلة والحمقى والمنافقين وأصحاب المصالح الاحتفال بانتصار هو عين الدمار لسوريا.
أي انتصار هذا؟! إنه انتصار الهاوية، إنه انتصار سقوط الوطن وضياع الأمة، فويلٌ لهؤلاء المنتصرين من انتصار الكوارث والسقوط.