ثمة استعراضات نصر بالغة الفجور يقوم بها شبيحة الأسد؛ هذا بالطبع ليس غريباً، بل هو متوقع جداً مع اقتحام غوطة دمشق وإبعاد شبهة الخطر عن تنظيم الأسد. أيضاً ثمة استعراضات نصر لم تكن متوقعة على نطاق واسع، يقوم بها علناً أو مواربة “مثقفون” يُفترض بهم عدم الانحدار إلى المستوى الرخيص للشبيحة. وإذا كانت احتفالات الشبيحة متوقعة بفجورها فإن احتفالات الفئة الثانية لم تكن مستبعدة نهائياً، ولم يكن هناك عشم يتعلق بهؤلاء الذين لم يتخذوا موقفاً إنسانياً إزاء نهج الإبادة الذي اتبعه تنظيم الشبيحة؛ فقط كانت هناك قيمة أُعطيت لهؤلاء مفادها أن مكانتهم وقدراتهم اللغوية ستنجيهم من الوضاعة المألوفة لأي شبيح شبه أمّي.
سيكون مستغرباً، للوهلة الأولى، أن يزداد تعبير هؤلاء المثقفين عن دعمهم لوحشية الأسد كلما تفاقمت الأخيرة، فخيار الصمت متاح تجنّباً لإحراج التضامن مع جرائم تُصنّف كجرائم ضد الإنسانية، مثل المشاهد الأخيرة التي وصلت من دوما وتفيد باستخدام السلاح الكيماوي. هذه المشاهد دفعت بترامب وماكرون إلى التواصل من أجل بحث سبل الرد، مع أن الاثنين ينقصهما الحماس والرغبة والدافع للقيام بأي عمل ضد الأسد، ولولا تأكدهما من الجريمة لفضّلا تجاهلها التام. إلا أن المشاهد نفسها لم تحرك أي وازع إنساني في الفئة إياها، حيث توزعت بين أخبث ما فيها وهو النوع الصامت عليها، لكنه يتذكر إدانة المعارضة في التوقيت نفسه، ومن ثم هناك الصنف الذي ينكر وقوع الجريمة، من دون أن يترك مجالاً للشك كأن يطالب على الأقل بالتحقيق فيها، أما الصنف الثالث فهو يذهب مباشرة إلى ما يريده زملاؤهم في الصنفين السابقين فيوجه التحية مباشرة للمجرمين في هذا التوقيت بالذات.
الحديث هو عن شريحة يمكن تسميتها بـ”الحشد الفكري” للأسد، ولا بأس في استخدام كلمة “الحيوان” بدل الأسد بما أن رئيس الدولة الأقوى لا يجد حرجاً في استخدامها، وبما أن نسب هذا الحشد لهذه الصفة لن يثير حفيظة أعضائه. الحشد الفكري دأب منذ بداية الثورة على التشكيك بها، وعلى النيل من البيئة الثائرة عموماً، بتصويرها بيئة اجتماعية متخلفة تارة، أو بيئة اجتماعية إسلامية متطرفة تارة أخرى. الهيئات التي انبثقت من الثورة، قبل وجود هيئات المعارضة التي نعرفها، تم تصويرها كهيئات ذات تبعية وأجندات خارجيتين. منذ البداية وفي الطور السلمي دأب هؤلاء على التشكيك في مسؤولية النظام عن قتل المتظاهرين، وفي الحد الأدنى التشكيك بعدد القتلى، وعندما أصبح هناك فصائل مسلحة واتتهم الفرصة ليلقوا بالمسؤولية عليها حتى عن الجرائم التي يرتكبها النظام.
الأكثر حذاقة بين أولئك سيجيب بأن نقد النظام تحصيل حاصل، فهو بالتأكيد يستحق النقد، إلا أن الاهتمام ينبغي أن ينصب على نقد المعارضة أو الثورة، هذا إذا اعترته زلة لسان واعتبرها ثورة. هذا النوع يرى أنه قد قال اليوم كلاماً سلبياً في حق النظام، بصرف النظر عن رقة كلامه إذا كان قد قاله حقاً بالمقارنة مع شراسة هجومه على الثورة، ولا يرى تالياً مبرراً لنقد أية جريمة يرتكبها النظام حتى إذا استخدم فيها أسلحة الدمار الشامل، بينما تستحق المعارضة الشتائم ليلاً ونهاراً بدعوى أنها أسوأ من النظام، أو بدعوى أنها قاتلت النظام واستفزته، وهي في المحصلة تتحمل مسؤولية مقتل المدنيين بسبب سلوكها ذاك.
أما من ينسب إلى نفسه سوية أخلاقية أعلى فيتبع سياسة الإنكار التي أقلع عنها ممثلون مباشرون للأسد، ويعتنق نظرية المؤامرة بحيث أن كل جريمة ترتكبها قوات الأسد لم تحدث وتمت فبركتها من أجل معاقبته. لا يخفف من نظرية المؤامرة المزعومة أن الأسد لم يتعرض لعقاب دولي طيلة سبع سنوات، وأنه حظي في مجلس الأمن بدعم يوازي أو يفوق الدعم الذي حظيت به إسرائيل من قبل، وأن المؤسسات الدولية العاملة في سوريا كُشف في العديد من الحالات عن تورطها في دعم مؤسسات الأسد بدل أن يذهب الدعم إلى مستحقيه من المنكوبين.
خلال سبع سنوات لم يتوقف الحشد الفكري عن معركته لدعم الأسد، علناً أو مواربة، بما في ذلك استغلال الفرص للتواصل مع الغرب الذي يتهمه بالتآمر على الأسد، وتقديم تصور للغرب مفاده أن الأسد يخوض معركة ضد الإرهاب، وأنه يخوض هذه المعركة نيابة عن الغرب نفسه. بدءاً من صفحات التواصل الاجتماعي وصولاً إلى لقاءات مع دبلوماسيين دوليين لم يقصّر الحشد الفكري في تصوير الحيوان على أنه مثال التحضر قياساً إلى الثائرين عليه، ويمكن القول بأنه خاض المعركة بجدارة، وغالباً من دون أن تلقى مواهب أصحابه تقديراً كافياً من قبل مناصري الثورة الذين نظروا إليهم كمجرد ثرثارين أو عديمي الضمير.
ومنعاً لأي التباس لم يكن الخلاف مع هؤلاء يوماً حول نقد الثورة، أو حول نقد المعارضة، وللأخيرة خاصةً أخطاؤها وخطاياها التي تنبغي محاسبتها عليها بلا هوادة. الخلاف هو مع ذلك التجاهل الخبيث المتعمد لأحقية السوريين بالثورة على تنظيم الأسد، وأحقية مطالبهم بمحاكمة هذه العصابة على تاريخ من الجرائم. الذين يتجاهلون ذلك هم داعمو نهج الإبادة وينبغي تسمية ما يفعلونه بكل صراحة، وليس أفضل من الوضوح في مواجهة من يحاولون طمس الجريمة الواضحة. إن خلافاً من هذا النوع لا محل له ضمن خلافات الرأي، مكان هذا الخلاف هو في المحاكم لو امتلكنا محاكم مستقلة وعادلة، لأن التشجيع على الإبادة أو إنكار حدوثها، أو إلقاء اللوم على الضحايا، جميعها بمثابة جرائم يعاقب عليها القانون في العديد من الدول. هذا إذا لم نأخذ في الحسبان الدوافع الطائفية لدى بعض داعمي الإبادة، وهذه أيضاً في حد ذاتها جريمة تمييز مستقلة إلا أنها تدعم ملف التحريض على الإبادة بوصفها جريمة ضد الإنسانية.
قد يلزم القول بأن المستقبل يوجب على السوريين مقداراً كبيراً من التسامح، إذا كان لهم مستقبل مشترك، وهذا التسامح ينبغي أن ينصرف أولاً إلى عدد ضخم من المتورطين الصغار، أو أولئك الذين ربما لم يكن لهم خيار رفض القتال. ثم إن هذه شريحة كبيرة لها هامشها العائلي والاجتماعي، والاقتصاص منها كلها قد يؤدي إلى كوارث مستقبلية على صعيد المجتمع ككل. لكن التسامح ينبغي أن يستثني فئتين أساسيتين بوصفها رأسي جرائم الإبادة والتهجير والتغيير الديموغرافي، وإذا كانت الإشارة تتكرر دائماً إلى رؤوس العصابة الأسدية فإن الفئة الثانية الجديرة بأن تكون شريكة لرؤوس العصابة هي فئة الحشد الفكري، وأيضاً للحشد الفكري رموزه المعروفة، ولرؤوسه مساهمات جليلة في خدمة العصابة الأسدية تفوق بمراحل مساهمات صغار الشبيحة العاديين. ثم إن الموقع الثقافي المفترض لرؤوس الحشد الفكري يجعلهم في موقع المسؤولية المضاعفة بحكم مسؤوليتهم الواعية عن كلمتهم، ومسؤوليتهم الواعية عن آثارها.
لقد كتب يوماً إدوار سعيد في كتابه “صور المثقف” عن أنماط عديدة للمثقف بما فيها مثقف السلطة، غير أن تلك التصنيفات تبقى شديدة القصور أمام تصنيفات يقترحها الحشد الفكري للحيوان، إلا إذا جاز لنا اعتبار الحيونة سلطةً وثقافةً.