ما من شك في أن المعارضة السورية المسلحة، أو ما تبقى منها، قد تعرّضت لضربةٍ قوية في غوطة دمشق الشرقية، وأن الروس، ومن ورائهم الإيرانيون، ونكتة دولة الأسد، قد حققوا سبقا مهما في الصراع على تقرير مصير النظام السياسي القادم، وربما مصير سوريةذاتها إذا صحّ ما أعلن عنه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من نيته الانسحاب بأسرع ما يمكن من المواجهة الميدانية. ومع ذلك، لا أعتقد أنها تغير كثيرا في معادلة القوة التي رست عليها الأوضاع، منذ تدخل روسيا بسلاحها الجوي ومرتزقتها مباشرة في الحرب، فقد ظهر واضحا منذ ذلك الوقت أن استراتيجية الدفاع الثابت عن المناطق التي كانت في حالة حصار منذ سنتين أو أكثر لم تعد تستطيع أن تقدم مكاسب حقيقية للمعارضة، إن لم تتحول إلى عبء عليها، بسبب ما تكبّده للمدنيين من مشاق ومصائب، وما تعرّضهم له من عذابات. فهي لن تستطيع أن تغير من مجرى الأحداث، وتعيد قلب اتجاه الحرب الذي اتخذ منذ عام 2013 منحى مناقضا لما كانت تأمله المعارضة، في وقتٍ لم تقم فيه هذه المعارضة نفسها بأي جهدٍ لإخراج نفسها من الحصار، ولم تنجح في إحداث أي خرق مهم، يسمح لها بالأمل في الخروج من حالة الحصار، ولا أي تغيير في استراتيجياتها وأساليب عملها وتنظيمها.
كان الأمل الوحيد أن يساعد الصمود في الغوطة، كما الحال في غيرها من المواقع، وما يعنيه من تضحياتٍ بالنسبة للمقاتلين والمدنيين معا، هو أن تدفع نحو مخرجٍ من الحرب عن طريق التسوية السياسية التي تحفظ حياة المقاتلين، وتضمن مستقبل الأهالي المدنيين، لا عن طريق الحسم العسكري. بيد أن تحقيق هذا الهدف المتواضع نفسه كان منوطا باستعادة فصائل المعارضة خطاب الثورة ومشروعها الوطني، أو على الأقل النجاح في تشكيل مجلس قيادة موحدٍّ للقوى المقاتلة، ينسق خططها ويوحد أهدافها. للأسف، ما حصل كان عكس ذلك، فقد تشبثت الفصائل، إلا ما ندر، بتوجهاتها الأيديولوجية التي أفقدتها آخر ورقة سياسية يمكن أن تحث المجتمع الدولي على السعي إلى الحفاظ عليه، واستخدامها ورقةً للضغط من أجل تسوية سياسية.
لا يمكن أن نتذرع هنا بتخاذل المجتمع الدولي، ليس لأن هذا التخاذل لم يحصل، وإنما لأنه كان واضحا كالشمس، منذ قطعت الدول مساعداتها عن معظم الفصائل، حتى من قبل أن يحصل التدخل الروسي المباشر نفسه. كان العمل على تحييد الفصائل الإسلامية، وحرمانها من أي أمل في التقدم، بكل أطيافها، هدفا دوليا مشتركا، أوكلت إلى موسكو مهمة إنجازه بكل الطرق والوسائل، بالتعاون مع المليشيات الممولة من طهران. وعندما أعلنت “داعش” عن قيام دولتها المسخ في مدينة الرّقة، صارت الحرب على الإرهاب محور تحالف دولي شامل، شاركت فيه عشرات الدول، وشكلت في إطاره قوى جديدة بدعم أميركي مباشر، كقوات سورية الديمقراطية، ظهر في البداية على أنه ضد التنظيمات الإرهابية حصرا، “داعش” وجبهة النصرة، وتبين في ما بعد أنه يهدف إلى قطع الطريق على أي احتمال، مهما كان ضئيلا، لتحقيق قوى إسلامية مكاسب جديدة في الصراع.
لكن بعكس المظاهر السطحية، لن يغير انسحاب الفصائل الإسلامية من الغوطة الشرقية في المعادلة السياسية للصراع. وبدل أن يقضي على القضية السورية، أو يهيل التراب عليها، ربما ساعد على تحريرها من الأنقاض التي تراكمت عليها بسبب المواجهة المسلحة واستمرار الحرب. وفي المقابل، أعتقد أن موسكو أضاعت فرصة ثمينة لتحويل الحل في الغوطة الشرقية إلى مدخل أو خطوة أولى على طريق الحل السياسي الشامل، عندما اختارت لمعالجتها الاستمرار في منطق الحسم العسكري، بدل أن تستغلها مقدمة ونموذجا مصغرا لتسويةٍ تعيد شيئا من الثقة للسوريين، وتمهد الجو لإطلاق جولةٍ جديةٍ من مفاوضات التسوية الشاملة. ومؤكدٌ أن تثبيت نظام الأسد الذي جعل منه الروس هدفهم في العلاقة مع المعارضة بكل أطيافها، في الغوطة وغيرها، وهو باختصار نظام الإقصاء الشامل واحتكار السلطة وتحويل الدولة إلى جهاز قمع للمجتمع، ومزرعة خاصة بأصحاب القرار، لا يمكن أن يشكل حافزا للتهدئة، ولا أن يساعد في نزع فتيل النزاع. إنه يعمل بالعكس على تأجيج مشاعر القهر وتعميق الشرخ السياسي والعقائدي، ومشاعر الظلم والمهانة والتهميش التي كانت وراء اندلاع الانتفاضة الشعبية، والتي دفعت قطاعات واسعة من الجمهور السوري أيضا إلى الاستسلام لأوهام الأيدولوجيات الجهادية على مختلف تنويعاتها.
يمكن لطغمة الحكم الضيقة التي فقدت صوابها مرتين، مرة في تحديها إرادة شعبها وتصميمها على إبادة من لا يقبل بها بكل أشكال العنف والدمار، ومرة لاعتقادها اليوم بالنصر، وأن العنف وحده من يحسم الصراع لصالحها، أن تفكّر بتقليد المشروع الإسرائيلي، تجاه سكان البلاد الأصليين، والرهان على نتائج التهجير القسري الواسع النطاق، وتغيير الوقائع الديمغرافية هنا وهناك، مع الاحتفاظ بسياسة القبضة الحديدية التي تبيد أي شكلٍ من الاحتجاج والاعتراض، نظريا كان أو عمليا. لكن ليس من مصلحة موسكو أن تأخذ لحسابها هذه السياسات التي تهدّدها بأن تعيد في سورية التجربة المرّة التي عاشتها في أفغانستان. وفي المقابل، ليس مؤكدا أن تتمكّن موسكو من التفاهم في هذا الموضوع مع طهران، وتصل معها إلى تسويةٍ تسمح بإعادة بناء النظام على أسس أخرى، غير قهر الأغلبية واحتكار السلطة وحكم القوة وغياب القانون، والذي لا يعني التشبث ببشار الأسد رئيسا مجدّدا للبلاد، بعد سبع سنواتٍ من الحرب الدامية، سوى البرهان القاطع تبني هذه الأسس وتعزيزها.
ما من شك في أن المعارضة السورية في شكلها الراهن وتشظيها الفكري والسياسي والعسكري قد انتهت، ولم تعد قادرة على خدمة الثورة وأهدافها، ولن تستطيع استقطاب دعم كثير من الجمهور والبقاء. لكن نهايتها، بالطريقة التي حصلت بها، لا تعني نهاية الثورة أو التمرّد أو الاحتجاج، ولن تقضي على شرعية المطالب والتطلعات والحوافز التي دفعت إلى إطلاقها. بالعكس، ستدفع مذلة الخسارة وسياسات الاستئصال والقهر المضاعفة التي ستعبقها على يد طغمة “حاكمة” انتقامية وحاقدة أثبتت، كما لم يحصل لأي شعب، استعدادها للتضحية بشعبها وبلدها وتسليمه لقوى الاحتلال الأجنبي، حتى تحتفظ بكامل احتكارها السلطة وموارد البلاد، ملكا خاصا بها، إلى تفاقم مشاعر الظلم والقهر والاحتقار وتفجير إرادة مقاومة مستمرة، لن تهدأ قبل إسقاط النظام الذي أصبح ملتقى اضطهادين، داخلي وخارجي، اجتماعي ووطني، وغنغرينا في جسم الدولة والمجتمع والبلاد.
ومهما كان الشكل الذي سوف تتخذه المقاومة لنظام الاضطهاد والقهر المزدوج هذا، لا بد أن تستفيد من تجربة السنوات السبع القاسية، ولن تسمح لنفسها بارتكاب أخطائها. باختصار، القضاء على المعارضة لا يعني نهاية الثورة أو الاحتجاج ورفض نظام لم يفقد شرعيته فحسب، ولكنه كشف عن هويته بوصفه نظام احتلال، لا يهمه مصير شعبه، ولا مستقبل مواطنيه، ولا تعنيه في شيء مصالحهم وأمنهم وحياتهم. وما لم يتحقق الانتقال إلى نظامٍ يمثل الناس، ويستوعب الجميع، من دون تمييز، لن يقوم للدولة والسياسة قائمة ولا قوام، سواء بقي الروس وحلفاؤهم أم رحلوا، وسواء بقيت سورية مقسمةً كما هي عليه اليوم إلى مناطق نفوذ دولية، أو توحدت تحت سلطة جائرة جديدة. وسوف تتحول الحرب الطويلة الدامية إلى جولةٍ من حرب طويلة مقبلة.
لن يستفيد من إنكار حقيقة الثورة وشرعية مطالبها أحد. ولن يربح أحد إذا خسر الشعب السوري، ولن يستطيع أحد أن يحكم سورية، أكان طغمة محلية أو وصاية أجنبية، ما لم يعترف بحقوق شعبها ويضع حدا للمظالم التي طاولته خلال العقود الماضية، وبعد سنوات الحرب العدوانية الطويلة والدامية. من دون ذلك، لن تكون سورية وطنا بأي حال، وإنما ساحة مواجهة شاملة ودائمة.
ولن تهزم الثورة بالقضاء على المعارضة، ولا على قواها المسلحة، مع العلم أن الوضع بعيد جدا عن أن يكون كذلك. لكن المهم أن لا نيأس، ولا ننهزم من الداخل، ولا نعتقد أن النظام وحلفاءه قد ربحوا أي حرب. إنهم يغرقون، وسوف يغرقون أكثر في الوحل الذي صنعوه بدماء السوريين. ينبغي أن يكون لدينا إيمان لا يتزعزع بأن ما قمنا به كان حقا، وأن التضحيات الغزيرة التي قدمناها كانت دفاعا عن حق، وأن الغايات التي ثرنا من أجلها كانت الأشرف والأنبل، وأن غايات خصومنا وأساليبهم كانت مثالا للخسّة والدناءة والشر. فالقتل بالجملة وتدمير البلاد للاحتفاظ بالسلطة الشخصية لا يمكن أن يمثلا هدفا مقبولا، كما لا يمكن للاحتلال الروسي والإيراني، والتغيير السكاني، أن يتحول إلى غاية أو قضية مشروعة بأي صورة كانت.
ينبغي أن ندرك أن الثورة غير الانتفاضة وغير الحرب. إنها مطالب إنسانية وأخلاقية جوهرية، أي قضية، والقضية غير التعبيرات المادية المختلفة عنها. وهي مستمرة بصرف النظر عن أشكالها ما بقيت غاياتها وحوافزها محرّكة للنفوس والعقول، وستبقى راهنةً، طالما لم تتحقق التطلعات الإنسانية وراءها. ومثال فلسطين لا يزال قائما أمامنا، بعد أن تحولت إلى قضيةٍ لا تموت، ولا تنسى بل تصبح هي ذاتها مؤسسا لسياسة وهوية. وحتى الفشل لا يضعف الإيمان بها، لكنه يشكل دافعا للمراجعة وإعادة الكرة في انتفاضات متعاقبة، وأشكال مقاومة متجدّدة. ما يعني أن الصراع لم ينته، وسوف يستمر، لا لأننا نرفض التسليم بحقوقنا، وفي مقدمها حق كل فرد في الكرامة باعتباره إنسانا ومواطنا حرّا فحسب، ولكن، أكثر من ذلك، لأن النظام الذي دخل في نفق مظلم وأدخل البلاد والمجتمع معه فيه لن يستطيع أن يخرج منه، عن طريق الإصرار على الإنكار ورفض الاعتراف بالآخر، أو بالإفراط في العنف واستخدام مزيد منه.
لا يُخرج المجتمعات من الحرب العلنية والكامنة سوى التفاهم بين أبنائها. ولا طريق للوصول إلى التفاهم غير الإقرار بمصالحهم المشروعة، والقبول بالحوار طريقا للوصول إلى توافق سياسي. من دون ذلك، لن يحظى أي سوري بحق المواطنة، ولا بأي وحياة آمنة وسلام حقيقي، لا في سورية الكاملة، ولا في أجزائها المفيدة والزائدة. وفي موضوع هذا التفاهم والحوار والتوافق، لا نزال، بعد الفشل المزدوج للنظام والمعارضة، في بداية الطريق، إن لم نكن على طريق الجلجلة.