فيكتوريوس بيان شمس
انتشرت في الآونة الأخيرة مجموعة كبيرة لصور المقاتلات الكرديات بعد هجوم “داعش” على مدينة عين العرب (كوباني)، تداولها نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي للبرهنة على نضج المرأة الكردية وقدرتها على لعب أدوار غير تلك المطبوعة في الوعي الجمعي العام لشعوب المنطقة.
كان المقصود من هذه الصور، أن تترك انطباعًا لدى الآخر، أن مشاركة المرأة الكردية في الصراع الدائر، مؤشّر على انفتاح هذه البيئة وتمايزها، وانغلاق غيرها، مع أن الحقيقة غير ذلك تمامًا. إذ، مرّ في التاريخ القريب للمنطقة تسجيل بطولات غير مسبوقة للمرأة في سياق الصراع العربي الصهيوني، وهو ما يشكّل عامل مفاجأة، إذا ما وجد المرء، أن الآخرين مدهوشون لمشهد النساء الكرديات بسلاحهن. والأكراد، جزء من النسيج الاجتماعي للمنطقة، عاداتهم وتقاليدهم ونمط حياتهم، لا يختلف كثيرًا عن أوضاع جيرانهم. ثم إن إتاحة الفرصة للمرأة كي تشارك في العمل العام بأقسى أشكاله، ليست خيارًا مجتمعيًا، بقدر ما هو خيار أيديولوجي، قامت به أحزاب وحركات سياسية بشكل أساسي.
أغلب الأحزاب العقائدية، سواء القومية، أو اليسارية، بل وحتى الدينية، كانت قد أفسحت المجال للمرأة لتشارك بالعمل العسكري في ظروف محدّدة. هذا ما فعله الحزب الحاكم في سوريا عبر ما يُعرف بـ “اتّحاد شبيبة الثورة”، ومن أبرز رموزه الشهيدة حميدة مصطفى الطاهر ابنة محافظة الرقة التي نفّذت في العام 1985 عملية ضخمة بسيارة مفخّخة بقوات العدو الصهيوني في منطقة جزين اللبنانية، راح ضحيتها ما يربو عن 50 قتيلًا وعدد كبير من الجرحى. وهو ذات الشيء الذي فعلته اللبنانية سناء محيدلي في نيسان من العام 1985. أسماء كثيرة تحضر في هذا المجال، كلّها قامت بعمليات ضخمة تعبّر عن شجاعة لا متناهية، كما فعلت الفلسطينية دلال المغربي التي قادت مجموعتها في عملية انطلقت من لبنان إلى العمق الفلسطيني، لتستشهد هناك في العام 1978. وسهى بشارة التي حاولت اغتيال العميل أنطوان لحد قائد ما كان يعرف آنذاك بـ “جيش لبنان الجنوبي”، فأصابته دون أن تقتله. وانعام حمزة التي استشهدت أثناء تنفيذ عملية ضخمة في جبل الشيخ ضد الجيش “الإسرائيلي” في العام 1990. عدا عن نوع آخر من النضال قامت به نساء كليلى خالد منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي، وهي مرحلة اختطاف الطائرات، عندما كان “المجال الخارجي” لـ “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” في أوج قوته. كثيرات هنّ النساء اللواتي لعبن أدوارًا محورية ودقيقة بظروف في غاية الدقّة والصعوبة.
لكن الإشكالية في المسألة ليست هنا، فحمل المرأة للسلاح في لحظة تاريخية معيّنة – على أهمّيته – لا يعتبر مؤشّرًا على الانفتاح المجتمعي، إذا كان معزولًا عن غيره من المؤشّرات، بل قد يكون بالعكس، دليلًا على الانغلاق والرجعية.
والأحزاب الكردية، كما الأحزاب في المجتمعات العربية، قامت المرأة في بنيتهم الاجتماعية، وبدعم من هذه الأحزاب العقائدية بممارسة العمل العسكري، كخطوة على طريق استثمار طاقاتها، وإفساح المجال أمامها لتكون جزءًا من أي عملية تغيير، لكن على مبدأ “الكوتا”، وهي واحدة من أكثر الأساليب رجعية، إذ إنّها تؤشّر إلى مساعدة المرأة على العمل العام في ظروف لا تستطيع أن تثبت نفسها فيها إلى جانب الرجل بشكل طبيعي، بينما قد تأخذ أكثر ممّا هو محدّد في هذه “الكوتا”، لو كان المجتمع الذي تعمل فيه، أكثر انفتاحًا. وهذا بالضبط ما فعله “حزب العمال الكردستاني” في ثمانينيات القرن الماضي، حيث بدأت هذه الظاهرة بالانتشار في صفوفه، خاصة بعد تشكيل ما يسمّى بـ “حزب المرأة الكردستانية”، فكان تشكيل هذا الحزب، دليلًا على الفصل بين الجنسين في سياق العمل العام، أي دليلًا على تمييز عمل المرأة عن الرجل، وليس خطوة في طريق إزالة الفوارق.
تابع “حزب الاتحاد الديموقراطي” حليف النظام السوري على نفس النهج منذ بدء الثورة، ليستخدم المرأة في عملياته، وهو ما أدّى لانبهار المجتمع بهذه الظاهرة الفريدة بعد انتشار التيارات الإسلامية التي جاءت لتملأ الفراغ الذي تركته الأحزاب الأيديولوجية الأخرى، والتي التحق معظمها بالنظام.
دول كثيرة، مختلفة التوجّهات، ومتفاوتة في التقدّم والتخلّف، أقدمت على تجنيد المرأة في جيوشها، تمامًا كما فعل الرئيس الأريتري أسياس أفورقي بعد وصوله للسلطة 1987 بقليل، ليسنّ قانونًا للتجنيد الإجباري للإناث، فيما لم تتقدّم أريتريا قيد أنملة منذ ذلك الوقت، بل مازالت الديكتاتورية تعمل فيها تجهيلًا وإفقارًا. إضافة إلى أن الكيان الصهيوني كان سباقًا في هذا المجال، فيما لم يكن هذا مؤشّرًا على تقدّمه أو تخلّفه، لأنه بطبيعة الحال كيان مركّب خارج المقاييس الاجتماعية الطبيعية، ولا يعكس سوى حقيقة واحدة، وهو أنّه نظام تمييز عنصري، تعامل مع العرب نساء ورجالًا وأطفالًا على سوية واحدة من الإجرام.
في الضربات الأولى للتحالف الدولي ضد “داعش” في سوريا 23 أيلول 2014، شاركت الرائد طيار مريم المنصوري من الإمارات العربية المتّحدة بقصف بعض المواقع بطائرتها إلى جانب زملاء من دول أخرى، وهو عمل بحاجة لاحترافية عالية جدًّا، قامت به على أكمل وجه. بالمقابل مازالت المرأة السعودية ممنوعة من قيادة السيارة، وهذه بنية وبيئة اجتماعية واحدة تقريبًا، ومتشابهة بالعادات والتقاليد، فلم يكن هذا مؤشّرًا على تقدّم الإمارات، وتخلّف السعودية. ربّما تكون الصورة أوضح إذا ما قورن وضع المرأة في مجتمعين أكثر تباعدًا، كالمجتمع الشرقي والغربي، هناك، حيث لا حاجة بها لأن تحمل السلاح، أو لأن يصبح حملها للسلاح في حقب ومراحل مضت، مظهرًا من مظاهر تحرّرها، فكانت عضوًا فاعلًا في المجتمع بما لها من حقوق، وما عليها من واجبات.
هذا ما أنجزته المجتمعات الغربية كوحدة كاملة، بكل مكوناتها، وبرجالها ونسائها، إذ ارتقت بنفسها، لتصل لمرحلة، لا ضرورة فيها للتمييز بين الجنسين، أو بمعنى آخر: لا ضرورة فيها للتطرّق للمسألة برمتها، فكل عضو بالمجتمع يعرف بالضبط حدود إمكانياته.