عنب بلدي – العدد 141 – الأحد 2/11/2014
الله يبعث الخير… إنها تمطر….
كانت أولى الكلمات التي نطقت بها، مذ التقيا والصمت هو سيدهما، والعيون هي التي تتكلم، فترفض الألسن أن تبوح بكلمة أمام جمال لغة العيون، كان يغار عليها حتى من دغدغة قطيرات المطر، فقرر أن يخلع جسده ليغطي جسمها، احتضنها حتى لم يبق منها إلا شعرها المتناثر الذي غطى جسده، فبدأ يعزف على أوتاره، ولكن عبثًا يحاول فقد قضى عليها منذ أمد بعيد.
راودته عدة أسئلة، تُرى لِمَ لَمْ يفعل هذا من قبل؟ ولم الآن؟ هل لأنه لم يستطع أن يصمد أمام خير السماء؟ أم أنه أخذ درسًا من الإله في بث الخير فأراد أن يُظهر لها خير رجولته؟ أم أن خير أنوثتها هو الذي فاض حتى دفعه لفعل ذلك؟
لم يخرج من تساؤلاته إلا عندما سمع دقات قلبها، مع قبلة رسم بها أجمل خارطة لوطنه المسلوب، لوناها بألوان مختلفة عما يخطط له الطاغية، وسكبا عليها عبق رائحة المطر، إذ لم تستطع رجولته أن تصمد أمام أنوثتها، فأحس أنه مأسور بها، وتذكر أيام سجنه لأنه كان يبحث عن الحقيقة، خاف أن يقول لها “أحبك” فيخسرها كما خسر حريته من قبل، كان يخاف أن تسجنه أنوثتها، إذ كان يدرك أنه حتى لو اختلف السجّان، وتبدلت التهمة فعذاب السجن واحد، حاول هو أن يسجنها بين أضلعه، كان يرى فيها وطنه الضائع، وأن على الإنسان أن يترك له بصمة في كل شبر من أرضه، لذا فكر أن يستشهد في هذه اللحظات، وهل هناك أجمل من أن يستشهد الإنسان في الأرض التي يحب؟ أخذ نفسًا طويلًا، فقد خاف أن تختلط عليه رائحة المطر برائحتها، أراد أن يقول لها كلامًا كثيرًا، ولكنه لم يعرف من أين يبدأ، فقد أحس بالندم لأنه أضاع لحظات طويلة دون أن يعيرها اهتمامًا.
تذكر أنه في كل مرة كانا يلتقيان كانت تخلع جلدًا عنها لتضع آخر فتتزين له، (حتى الأرض تتزين لبني البشر)، لتملأ عينيه بصور أجمل للوطن، لترسم أمامه أجمل لوحات للعشق، ولكنه في كل مرة كالسابقة يفاجئها بأن لا تعليق، فهل يا ترى رجولته تمنعه من البوح ولو بكلمة؟
بدأ الضعف يتسلل إليها، كانت تقف طويلاً أمام المرآة، وتسأل نفسها هل الحرب شوهتها إلى هذه الدرجة؟ أم أن جنود الطاغية –حماة الوطن- اغتصبوها، وهي في غمرة البحث عن بقية أعضائها؟ فقد كانت ترى في نفسها أجمل صورة لأروع وطن، ولكن ما الذي حدث؟ وما ذنبها إذا كانت يد الغدر قد سلبتها عذريتها؟! ثم بدأت تتسلل من بين أضلعه، بعد أن تعلمت العشق من عينيه، وكلمات العذاب من قواميس شفتيه، لقد كرهت رائحة جسده الذي يحمل روائح أخريات غيرها.
سيدي:
أرجوك إن كنت تعجز عن الكلام وتستطيع فقط الصمت فاصمت بعيدًا عني، ولكن تذكر أنني لن أكون لسواك، ولكن بالله عليك ألا تستطيع أن تنسج كلامًا عذبًا يلملم أشلائي ويعيدني كما كنت أبهى وطن لأغلى البشر؟
وهو ما زال يلف جسدها سمع كل الذي فكرت به وعجزت عن قوله لفرط أنوثتها، إنها أرضه، مسقط رأسه -رغم أنه لم يشعر ولو للحظة بذرة من كرامة وهو يطؤها- ولكن إيمانها برجولته يمنعه من تركها ضحية بين براثن المجرمين، إذ أراد أن يقول لها أنه مذ خلق وقد صُمم له كاتمات صوت، وكلما فكر بالكلام يؤخذ لكتم صوته بالتعذيب والسجن له ولكل من أراد النطق.
سيدتي:
اعذريني! ربما نساء أخريات سحرنني، ورائحتهن عبقت في أنفي، أو حتى ربما صوت ضحكاتهن لم يفارق مخيلتي، ولكنني أقسم أنني كنت أحاول أن أستفز أنوثتك بهن، ولكن ما عساي فاعل؟ وقد جُبلنا على التنكر للأشياء الجميلة، وتسليط الأضواء على التي تزعجنا، فسامحيني إذ بحثت عن غيرك فاستغلوا غفلتي واستباحوا أنوثتك.
توقف خير السماء عن الهطول، وهما ما زالا يتبادلان الحوار بلغة الصمت…
وهكذا بقي الإنسان يبحث عن حقيقة وطنه…وطنه الذي لو شُغل بالخلد عنه نازعت إليه في الخلد نفسه… يضمها إليه كلما وجدها… يلفها بجسده حتى لا تذهب منه… ولكن… إذا به يضم سرابًا.