الإدارة الأمريكية وعقلنة اللامعقول
حذام زهور عدي
ما حدث وما يحدث اليوم في سوريا لا يمكن تصنيفه إلا بخانة اللامعقول، وليس مجانبًا للحقيقة القول إن تاريخ السياسة الدولية لم يعرف مثل هذه السوريالية في أيٍ من مراحله الحديثة، والتي أحدث التطور الإنساني العالمي فيها قطيعة نهائية بين بربرية عصورالعبودية والعصور الوسطى وبين عصور التنوير وصولًا إلى العصر الإنساني الحديث.
ناضلت الشعوب طويلًا وجرت مآسٍ إنسانية لاحصر لها حتى توافقت المجتمعات العالمية على مفاهيم حقوق البشر في علاقاتهم مع من يحكمهم وفي حدود التعامل الإنساني فيما بينهم، وبالرغم من تحول الرأسمالية العالمية إلى إمبريالية متوحشة إلا أنها كانت تدرك دومًا أن مصالحها نفسها تقتضي العمل على أنواع من الاستقرار الإنساني وصون مفاهيم الحرية والكرامة واحترام العقود الاجتماعية بين الشعوب وممثلي سلطاتها وأنظمتها، وقد ثبتت تلك المفاهيم نهائيًا بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، ومرّ قرابة قرن كامل شهد نضالًا إنسانيًا مُرًا تحت مظلة تلك المفاهيم منتجًا دولًا مستقلة تعتمد دساتيرها مبادئ حقوق الإنسان وحقوق الدول.
لكن ما حدث ويحدث في سوريا يلغي كل تطورٍ للتاريخ البشري، ويعيد الإنسانية إلى عصورالظلام، وكأن الدول العظمى قررت بمواقفها من الثورة السورية، إلغاء ذلك التطور، متجاهلة الثمن الضخم الذي دفعته البشرية من عذاباتها وآلامها، مستعيدة شريعة الغاب ببربريتها الأولى، تاركة دول العالم الأخرى، كبيرها وصغيرها، قريبها وبعيدها، تعبث بالأرض السورية وتجعلها ميدان عودة عصر العبودية، مقدمةً الشعب السوري القربان الأكبر لها.
أين العقلانية في دعوات الواقعية والتعقل التي تعج بها رسائل مراكز الأبحاث العالمية مزجية نصائحها الحنونة للثوار السوريين، وللشعب السوري وكأنها تطلب منهم الإذعان للأمر الواقع والاستسلام للمطالب الإيرانية- الروسية بتفريغ الوطن، وقبول سلطة من ثاروا عليه، بدعوى أنْ لا أحد سيمد يده لإنقاذهم، ذلك هو قدر الغوطة كما مثيلاتها من المدن السورية ومناطقها، وليس للشعب السوري سوى رفع يديه وحمل ما تيسر من بُقج أشيائه وأشلائه والمغادرة إلى الفيافي وقيعان البحار.
اليوم، وبعد السنوات السبع، يقف من يتساءل: هل كان توقيت الثورة خاطئًا؟ وهل كان يجب ألا يثور الشعب السوري؟ وهل كانت حساباته حول المواقف الدولية والحلفاء والأعداء وما يستتبع من معرفة بقواه الذاتية وببنية النظام الأسدي وقدرة أجهزته على تلغيم العمل الثوري واختراقه؟ هل كانت تلك المعرفة كافية لتحقيق الأهداف التي ثار من أجلها؟ وهل صحيح بالمطلق أن الانتصار حتمي لشعب أراد الحياة؟
بصرف النظر عن معقولية تلك الأسئلة أو عدمها، وبصرف النظر عن ظروف الثورة ومسيرتها والإيجابي والسلبي وما بينهما في خطوطها البيانية، فإن كل تساؤل مما سبق يقابله تساؤل مضاد له وفيه من المعقولية والمنطق أكثر مما في الآخر، إذ إن عالمًا تلبسه الفوضى لن يقدم للشعوب إلا ما ينضحه إناؤه، وإن نظام المافيا الأسدية لن يمارس، في حال جاءت الثورة بعد مئة سنة، إلا كما فعل الآن وأكثر، بل كلما مرت السنون كانت مقاومته أكثر تعقيدًا وشراسة.. ولعل الثورة تأخرت وكان عليها ألا تترك سرطان الفساد والاستعباد ينتشر بحيث يصعب معالجته واستئصاله إلى درجة قريبة من الاستحالة.
أما لمَ حدث ما حدث؟ فيحتاج الأمر إلى مراكز أبحاث موضوعية ومحايدة رغم كثير من الأمور التي أصبحت واضحة، وفي مقدمتها الموقف الأمريكي، ليس لأن أمريكا قائدة العالم الحر فقط، بل لأن التوازن الدولي الذي يضمن السلام والاستقرار العالميين يعتمد إلى حدٍ ما على ذلك، ولذا فإن عزل هذا العامل عن العوامل الأخرى في فهم ما حصل ويحصل، افتراضًا، هو أمر مبرر.
وسواء كانت الإدارة الأوبامية المسالمة تتلطى خلف جائزة نوبل للسلام، التي أغرته حكومة العالم بها بعد تسعة أشهر من توليه الرئاسة، أو خلف اضطرابها زمن السيد ترامب، فقد وصل بوضوح الموقف السلبي الأمريكي، وأيقن الشعب السوري أن تفاهمًا ما قد جرى بين الكبيرَين لعدم مد اليد لإنقاذ الغوطة، كما حدث سابقًا من أجل حلب أو أيٍ من المناطق المنكوبة الأخرى، وأن ما حاولت إيهام الآخرين به، من خلال قصف الشعيرات هو رسالة لبوتين نفسه ليلتزم بحدود تقاسم النفوذ، ولتقول له: نحن هنا ولاتظنن أنا أعطيناك بطاقة بيضاء لتتصرف كما تريد، وأكدت موقفها ذاك عندما حاول المساس بخطوطها عند دير الزور، مستعرضة بعض أسلحتها التي يحتاج بوتن إلى دهر ليتفوق عليها بالرغم من جهوده المتميزة في هذا المجال.
ولو أرادت واشنطن إنقاذ الغوطة لما كلفها ذاك غير إنذار تحرك من خلاله قواتها القريبة جدًا منها، أو غض النظر عن فزعة فصائل الجنوب وتحركهم لإنقاذ إخوانهم.
والمستغرب أنه في المقلب الآخر كنا نسمع ضجيجًا يملأ وسائل الإعلام المحلية والعالمية يوحي بأن ضمير إنسانية من بيده القرار الدولي قد ضاق ذرعًا بتوحش النظام الأسدي وداعميه، وأن شيئًا ما سيحدث لوضع حدٍ له، والمتابع تأخذه الحيرة في المفارقة بين ذلك الضجيج وبين الرسائل التي وجهتها واشنطن لفصائل الجنوب بعدم دعم الغوطة، مهددة بقصفهم في حال معارضتهم لقرارها.
إنها جعجعة رحى لا تُعطي طحينًا، وغالبًا يميل السوريون لعدم تصديق تلك الأخبار، فتجاربهم السابقة مع مثل هذا الضجيج لم تعطهم أي مصداقية له.
إذًا ما الذي تريده أمريكا من تلك الرسائل الحارة؟
هل تريد تبرئة ذمتها من الدماء السورية بتلك النصائح والتوجيهات بحجة محافظتها على الفصائل تلك؟ أم هو نوع من التعاطف الإنساني لتوفير بعض مشكلات الجرائم الإنسانية عليها بعدما صمتت وسمحت بأكبر جرائم العصر بالوقت الذي تُصر فيه على أنها مسؤولة تنظيم العالم وإدارته؟!
كان على الإدارة الأمريكية أن تكف عن سلبيتها وتتبنى موقفًا، ليس إنسانيًا فقط ولا مؤكدًا مصداقية توقيعاتها على مواثيق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، وإنما لمصالحها المستقبلية كدولة كبرى رئيسة، تقود العالم، حتى الآن على الأقل، وعدم السماح لمصالح آنية تُراكم من خلالها شركات بعينها أرباحًا خيالية متجاهلة مسؤوليتها تجاه المجازر الهائلة التي ضجت وتضج البشرية من أهوالها.
كان على واشنطن أن تكف عن الاشتراك بمؤامرات التقسيم، التي تعلن يوميًا عن رفضها له وحرصها على وحدة الدولة السورية والأرض السورية، بينما تدعم واقعيًا إنشاء كيان يصادر ثلث الدولة والأرض، وأن تواجه دخول أحزابٍ إرهابية، باعتراف برلماناتها، لسوريا، وهي التي تقود الحرب على الإرهاب، ودخول الميليشيات والفرق الإيرانية للاشتراك بالمقتلة السورية، لا أن تسكت عنها بذريعة رغبتها في استنزاف الآخرين بمستنقع الدماء السورية.
إن الإدارة الأمريكية ومراكز أبحاثها تحاول برسائلها تلك عقلنة اللامعقول، لكن الحكمة التي سار التاريخ البشري في ضوئها دومًا “لا يصح غير الصحيح ولا يمكن لغير المعقول أن يتعقلن”، وصحيح أن المآسي تكبر وتتعمق، لكن الأصح أن تُفتح العيون لترى بصيص شمعة تبدد من بعيد ظلام الأنفاق.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :