وسيم الشرقي
أسهمت موجات الهجرة التي فرضت على السوريين بتغيير تجربتهم الحياتية والمهنية على عدة أصعدة، أحدها بطبيعة الحال التجربة المسرحية، لكن هذا التغيير بقي على مستوى أفراد، وفقًا لظروفهم من حيث مكان الاستقرار الحالي والعمل.
وربما يكون المقيمون الآن في دول غرب أوروبا أكثر حظًا من غيرهم، إذ تتاح لهم مشاهدة عدد كبير من العروض المسرحية النوعية، والاحتكاك بمؤسسات مسرحيّة عريقة ومستقرة، فضلًا عن فرصة حضور مهرجانات مسرحيّة مهمّة وضخمة.
قد توفر هذه الظروف فائدة ومتعة للسوريين المقيمين هناك، إلا أن رسوخ تقاليد العمل في المسرح الأوروبي، وابتعاد الصعوبات التي يواجهها عما واجهنا في سوريا أو من الممكن أن يواجهنا فيها مستقبلًا، قد يحدث في يوم ما نوعًا من الفجوة، بين الاستفادة من “التجربة الأوروبية” وإمكانية نقلها إلى سوريا.
أما في تركيا، فهي حالة خاصة برأيي، فتركيا أولًا تضم أقل عدد من المسرحيين السوريين، مقارنة بكل بلدان اللجوء، وبما يتناسب عكسًا مع عدد اللاجئين فيها، وهو الأعلى بين هذه البلدان، أو ربما يعادل مجموع عدد اللاجئين في بقية بلدان اللجوء مجتمعة. يضاف إلى ذلك حاجز اللغة الدائم بين صناع وجمهور المسرح الأتراك، ونظرائهم من السوريين. ففي حال تجاوزت كل الصعوبات المرتبطة بالإنتاج والتمويل، والمكان وغيرها، تواجهك صعوبة ضخمة جدًا من ناحية الجمهور الذي ستستهدفه كمسرحي.
الخيار المتبع عادة في التجارب المسرحية السورية القليلة هو تقديم عروض باللغة العربية فقط، وبالتالي فإن الجمهور سيقتصر على السوريين، وستبقى بهذه الحالة معزولًا داخل المجتمع التركي، دون استفادة من المسرح للمساعدة بكسر هذه العزلة الثقافية.
لذلك حاولنا في تجربتين قمنا بهما العام الماضي في اسطنبول أن تكون لغة العرض مزدوجة، أي بالعربية والتركية في الوقت ذاته، بمعنى أن الممثلين هم خليط من سوريين وأتراك، مع وجود ترجمة مباشرة للغتين.
ولكن حتى هذا الخيار كانت له صعوباته المرتبطة بالترجمة الفورية، وصعوبة متابعتها من قبل الجمهور، بالإضافة إلى ما ذكرته عن غياب الكوادر المحترفة من المسرحيين السوريين، فأصحاب الخلفية المسرحية الأكاديمية ممن كانوا مقيمين في تركيا غادروا بمعظمهم إلى أوروبا، والشابات والشبان المتحمسون للعمل المسرحي والمقيمون في تركيا الآن، تنقصهم الخلفية الأكاديمية بسبب لجوئهم من سوريا في عمر صغير، وبسبب شح إمكانية مراكمة تجربة مسرحية عملية في المشهد المسرحي التركي المنغلق على نفسه (وهذا حديث ذو شجون).
لذلك يبدو أنه لا بد من انتظار تخرج بعض السوريين ممن التحقوا بأكاديميات مسرحية في تركيا لنرى مشهدًا مسرحيًا سوريًا يتناسب مع كثافة وجودنا في تركيا، أو ربما يجب أن ننتظر فرض قيود أقل على حركة السوريين باتجاه تركيا، وبالتالي من الممكن أن يحدث تبادل خبرات بين المسرحيين السوريين المقيمين في بلدان أخرى، وبين الشابات والشبان المتحمسين للعمل المسرحي في تركيا، وما أكثرهم.
أما بالعلاقة مع لبنان فعلى الرغم من ضعف البنية التحتية المسرحية في العاصمة بيروت، مقارنة باسطنبول مثلًا، أو أي مدينة أوروبية صغيرة، فإن تجربة المسرحيين السوريين المقيمين في بيروت أكثر توازنًا بتقديري بالعلاقة مع كل من تكويننا المسرحي كسوريين، أو السياق السياسي- الاجتماعي للمكان الذي يعيشون فيه، فغياب حاجز اللغة في نوع فني كالمسرح قائم بمعظمه على النص المكتوب، جعل الشراكة الحقيقية بين كثير من السوريين ونظرائهم اللبنانيين، ومنذ ما قبل العام 2011 ، أمرًا مجديًا على مستوى النتيجة، زد على ذلك أن عددًا لا بأس به من المسرحيين السوريين المقيمين في لبنان يحظى من وقت لآخر بفرصة السفر للمشاركة في مهرجانات مسرحية أوروبية أو عربية، وبالتالي يطلع على ما يجري في “السوق المسرحي” إذا صح التعبير.
وإن كنت أجد تجربة لبنان أكثر توازنًا بالعلاقة مع نوع المشاكل والتحديات والجمهور، الذي سنواجهه في سوريا، إلا أنه بالتأكيد لكل تجربة مسرحية سورية اليوم، وبغض النظر عن بلد الإقامة، فائدة على مستوى فهمنا للمسرح، وآليات عمله في سياقات مختلفة، قد تقترب منا حينًا، وتبتعد أحيانًا أخرى، إلا أن الأثر النهائي لهذا الاحتكاك لا بد وأن يكون مفيدًا في يوم ما، لمسرحنا في سوريا، مع التذكر دائمًا أن استنساخ تجارب الآخرين قد يتعذر فعلًا في ظل ما يعيشه بلدنا اليوم، أو ما سيعيشه في المستقبل.