محمد رشدي شربجي
من الصعب على أي إنسان -أو حتى جان- أن يفهم ماذا يحصل داخل الإدارة الأمريكية، الفوضى العارمة ضاربة الأطناب هناك لا يمكن تخيلها، وبالتالي لا يمكن تخمينها ولا التبنؤ بمآلاتها، من كان يتوقع على سبيل المثال أن ينتهي الأسبوع الذي بدأ بضم صقور الحرب من أمثال جون بولتون بإعلان ترامب أن أمريكا ستنسحب “قريبًا جدًا” من سوريا، ثم تبعه بتجميد المساعدات المالية المخصصة لسوريا.
وفي الواقع وبالرغم من الخطابات الرنانة التي تتحفنا بها الإدارة الأمريكية كل حين، فإنه من الصعب تخيل أن للولايات المتحدة خطة أو حتى أطلال خطة لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وإذا أراد المرء إطلاق العنان لنظرية المؤامرة، فلا شك أن الولايات المتحدة تمهد الطريق لإيران، فقد تركت مدينة كركوك تواجه مصيرها أمام جحافل قاسم سليماني، ثم فرضت على الجيش الحر الانسحاب من بادية الشام لتجنب مواجهة مع قوات النظام السوري، بل وهددته إن هو أقدم على هذه المواجهة بفقدان الدعم، وأخيرًا تصريح أمريكي بالانسحاب.
وغالب الظن أن الجعجعة الأمريكية هذه ضد إيران ليست أكثر من ذر للرماد في عيون السعوديين، الذين أهدوا ترامب نصف ترليون دولار على أمل أنه سيحارب إيران نيابة عنهم، وهو غباء احترفته الإدارات السعودية المتعاقبة خلال العقود السابقة، أو أن الخطوة الأخيرة (إعلان الانسحاب) هي ابتزاز أمريكي للسعودية لجعلها تدفع كلفة إعادة الإعمار، وهو طلب تردد أن ابن سلمان “تردد” في الإجابة عليه، وهذا بطبيعة الحال ليس مستبعدًا.
والحال أنه حتى ولو صح أن الولايات المتحدة تسعى لمواجهة النفوذ الإيراني وتحجيمه في المنطقة، فإنها لا تمتلك الأدوات الكافية ولا الحلفاء لفعل ذلك، فالعرب السنة تم تشريدهم، وتركيا انتقلت إلى الصف الروسي، وبقي للأمريكيين حزب العمال الكردستاني الذي بات عليه أن يجابه إيران التي دعمته لعقود وتحتفظ معه بعلاقات ثابتة.
لقد حرصت أمريكا بنذالة من خلال الحرب على الإرهاب على ألا تستفيد فصائل المعارضة ومن خلفها تركيا من مكتسبات هذه الحرب، وبالنتيجة صبّ صافي ربح هذه الحرب اللعينة في صالح النظام السوري ومن خلفه إيران بطبيعة الحال، لقد دُمرت حواضر السنة وشُرد سكانها جميعًا من أجل تحريرها. من كان يتخيل أن يستطيع النظام استعادة كامل محافظة دير الزور لولا الرفض الأمريكي لإشراك فعلي للعرب السنة في قيادة معارك السنة، والاعتماد بدل ذلك على المقاتلين الأكراد، ما دفع تركيا إلى أحضان روسيا مرة أخرى.
بسقوط الغوطة الشرقية تكون المعركة السورية لإسقاط الأسد برضا ومساعدة أمريكية قد فشلت، ومن ناحية استراتيجية فإن المحافظة على وجود العرب السنة في المنطقة يجب أن يكون أولوية قصوى، وبرغم كل الكوارث والمخاطر فإن ذلك صعب التحقيق دون دخول تركيا لإدلب، وحتى هذا مشكوك به في ظل إصرار السلفية الجهادية على إتمام الجهاد حتى القضاء على آخر مسلم في العالم.