عنب بلدي – ضياء عودة
فتحت السيطرة على منطقة عفرين الباب أمام تركيا للبدء بتحقيق أهدافها على طول حدودها مع سوريا، وانطلقت من مقومات ترتبط بحماية أمنها القومي وإبعاد الخطر الملازم لها منذ سنوات، والمتمثل بـ “وحدات حماية الشعب” (الكردية) التابعة لـ “حزب العمال الكردستاني” المحظور من قبلها.
وكان لسرعة تحقيق أهداف “غصن الزيتون” في عفرين الدافع الأكبر للاعب التركي للتفكير ببقية المناطق على طول الشريط الحدودي، إذ تمكنت فصائل “الجيش الحر” والجيش التركي من السيطرة على كامل عفرين في أقل من شهرين، وبأقل التكاليف سواء على المستوى العسكري أو المعنوي المرتبط بالمدنيين، الأمر الذي شكل حافزًا لفرض الخيار العسكري المعلّق منذ سنوات.
تهديدات متتالية تصدرت المشهد السوري في الأيام الماضية على لسان مسؤولين أتراك، آخرها قول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إن تركيا تجهز للسيطرة على أربع مناطق سورية على طول حدودها، ورافق ذلك إغلاق المعابر المؤدية إلى منبج بشكل كامل، وإيقاف الحركة التجارية والمدنية منها وإليها.
وبموازاة ذلك، برز على الواجهة صدام فرنسي- تركي، على خلفية تصريحات من الأول، عرضت دور الوساطة بين تركيا و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وأكدت على استمرار دعمها للقوات الكردية في الشمال السوري لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، ما يمهد لحرب باردة على المستوى السياسي والعسكري، تعود تبعاتها على تركيا بشكل أو بآخر.
تعتبر تركيا أن دخولها العسكري إلى سوريا حماية للأمن القومي على طول حدودها، وتقول إن الدول الأخرى وأبرزها روسيا وأمريكا تحتل المناطق التي تدخل إليها، ويحب خروجها بانتهاء المعارك ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”. |
تحرك بـ “نفَس طويل”
لم يكن التهديد الذي أبداه أردوغان جديدًا، بل سبقته وعود أطلقت عقب السيطرة على مركز عفرين، وأكدت نية تركيا الوصول إلى الحدود السورية- العراقية، و”تطهير” كامل حدودها من “الإرهاب”، إلى جانب التشديد على موضوع مدينة منبج التي تصدرت دائرة الحديث منذ اليوم الأول لـ “غصن الزيتون”، 20 من شباط الحالي.
وفي تدخلها الأول في سوريا، اتبعت تركيا سياسية اعتمدت على التحرك ببطء، سواء سياسيًا أو عسكريًا، وما يثبت ذلك الظروف الأولى لعملية عفرين، إذ بدأت بتكتيك “ضيق” أظهر المعركة خاسرة والقوات المقاتلة في طريقها إلى الاستنزاف، لكن لم يمض أسبوعان حتى اتضح الأمر وتبين أن المكاسب تعود على تركيا وبتكلفة بسيطة.
وتعتبر التهديدات التركية الحالية الأولى من نوعها، وتركزت سابقًا في مدينتي عفرين ومنبج، لكنها انسحبت حاليًا إلى كامل الحدود، حيث تصطدم بأمريكا التي تقدم دعمًا للقوات الكردية، وبفرنسا التي برزت إلى الواجهة من جديد.
ويقول المحلل السياسي التركي، محمود عثمان، إن تركيا لديها شعور بأنها لم تتمكن من تأمين الحد الأدنى لها حتى اليوم، سواء المناطق التي تحقق أمنها “الاستراتيجي”، أو حصتها في ساحة النفوذ على الساحة السورية.
ويضيف لعنب بلدي أن المسألة السورية بالغة الحساسية وشديدة التعقيد، وهناك أطراف دولية متداخلة، وأي طرف يرغب بالتحرك ليس بالأمر السهل، وهو ما يمكن ربطه بنية تركيا التحرك على الحدود، والذي تحكمه التفاهمات مع الدول الإقليمية الأخرى.
وأعطى نجاح “غصن الزيتون” والمكاسب التي حققتها بأقل الخسائر بشريًا وماديًا دفعة نفسية كبيرة لتركيا ومعنويات للاستمرار بنفس الطريقة.
ويعتقد عثمان أن الأتراك يتحركون بـ “استراتيجية النفس الطويل”، وهو ما تم تطبيقه في “درع الفرات”، وصولًا إلى إنهاك الخصم ماديًا ومعنويًا واستنزاف قواه العسكرية.
ما بعد “غصن الزيتون”
بحسب تصريح أردوغان الأخير، تستعد تركيا للسيطرة على الحسكة، رأس العين، تل أبيض، عين العرب (كوباني)، بالإضافة إلى منبج، التي تعتبر تركيا أمرها “محسومًا”، كما هو الحال في عفرين.
ولا يمكن فصل ذلك بشكل أساسي عن التفاهمات الخاصة بأمريكا، والتي كان على رأسها وزير الخارجية الأمريكي السابق، ريكس تيلرسون، في آخر زيارة له إلى تركيا، وأكد فيها حق تركيا في تأمين حدودها.
وما شدد على ذلك، المعلومات التي أشار إليها أردوغان في خطاب له، 31 من آذار الماضي، قائلًا “عندما استقبلت تيلرسون (وزير الخارجية الأمريكي المقال) قال خذوا أنتم الشمال ونحن نأخذ الجنوب، فقلت له: لم علينا تقسيم البلد أو أخذه، إن هذا البلد له أهله وسكانه الأصليون؟”.
ويعتبر عثمان أن “ما بعد غصن الزيتون ليس كما قبلها، وستتجه تركيا إلى تحرير الحدود في الأيام المقبلة، لكن ستعتمد في ذلك على ميدان التفاهمات السياسية وعدم الصدام مع الطرف الأمريكي خصوصًا”.
ويوضح أن الدول الإقليمية اللاعبة في سوريا كانت تشارك على الأرض في السنوات السابقة عبر وسطاء محليين، أما الآن بقواتها المباشرة، وخاصة تركيا وأمريكا وروسيا.
وفي حال “نفد صبر الأتراك”، يشير عثمان إلى أن تركيا ستقوم بالضغط على منبج تحديدًا، وهي المدينة المفروغ من أمرها، بينما المناطق الواقعة شرقي الفرات سيعطي الأتراك فوقية في المطالب حولها.
ولا يمكن حسم الأمور للجانب التركي حتى اليوم، والذي يصطدم بالتغييرات الأخيرة التي شهدتها الإدارة الأمريكية بتعيين وزير خارجية جديد بدلًا من تيلرسون، ما يعلق جميع الأمور التي تم الحديث عنها في الزيارة الأخيرة حول منبج ومناطق شرقي الفرات بشكل كامل.
استفزاز فرنسي
وسط التأكيد التركي على استكمال العمليات العسكرية ضد “الوحدات”، دخلت فرنسا كطرف مضاد، وحذرت من أي تحرك تركي ضد القوات الكردية في منبج، معلنةً أنها ستزيد عدد قواتها في المناطق التي تسيطر عليها “قسد”.
وسبق الموقف الفرنسي الحاد تصريحات رفضت عملية “غصن الزيتون” في عفرين، واعتبرتها نوعًا من الاحتلال تقوم به تركيا، سعيًا لضم المنطقة إلى أراضيها.
ويتعرض الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لانتقادات في فرنسا بشأن استجابته تجاه العملية العسكرية التركية ضد “الوحدات”، ويعتبر خصومه هذا العمل بمثابة تخلٍ عن الكرد، وبعد لقائه لأول مرة مع وفد من “قسد”، قال الوفد إن الرئيس الفرنسي تعهد بإرسال المزيد من القوات في إطار جهود التحالف وتقديم مساعدات إنسانية، والتوسط بين الكرد وأنقرة.
وشكل الموقف الذي أعلنته فرنسا “استفزازًا” كبيرًا لتركيا، واعتبرت أن أي خطوة فرنسية بشأن الوجود العسكري شمالي سوريا هو بمثابة “احتلال للمنطقة”، وأنها غير مشروعة بموجب القانون الدولي.
وفي سياق ذلك، ذكرت وكالة “الأناضول” نقلًا عن مصادر لم تذكرها، أن أكثر من 100 عنصر من القوات الفرنسية الخاصة يوجدون في خمس نقاط شمالي سوريا، وحددت المصادر مواقع تمركز القوات الفرنسية، منذ حزيران 2016، بأكثر من 70 عنصرًا في تلة “ميشتانور”، بلدة “صرين”، مصنع “لافارج” الفرنسي للإسمنت في قرية “خراب عشق” في ريف حلب شمالي سوريا، و”عين عيسى” في ريف الرقة، إضافة إلى 30 جنديًا في مدينة الرقة.
ولم تتضح النوايا الفرنسية تجاه تركيا أو الأسباب التي دفعتها إلى الخطوات “الاستفزازية”، لكن مراقبين رأوا في ذلك نية الرئيس ماكرون في الدخول إلى الساحة الإقليمية من جديد، ومشاركة فرنسا في الجهود الدبلوماسية في المنطقة، إلى جانب كل من روسيا وأمريكا.