ترسم معالم المعارك الأخيرة حدود سورية المفيدة التي سعى إليها النظام مع شريكته إيران، منذ بداية التموضعات الدولية على الأرض، وحيث يسترجع النظام آخر معاقل الفصائل المسلحة المحسوبة على المعارضة السورية في محيط دمشق، تكون الخطوط الفاصلة بين المصالح الدولية بدأت تتمظهر في شكل نفوذ، «بوضع اليد»، بين كل من الدول الأربع (إيران، روسيا، تركيا، الولايات المتحدة الأميركية)، وتتماهى حصة النظام مع الدولتين الداعمتين إيران وروسيا، بينما تذوب المعارضة في ثوب تركيا، ويتمسك أكراد سورية «بوعود غير مضمونة» من الولايات المتحدة الأميركية في شمال شرق البلاد، ويبقى مصير جنوب سورية المتاخم للحدود مع الأردن والكيان الإسرائيلي رهناً بالمفاوضات الأميركية- الروسية، ووفق المصلحة الإسرائيلية، التي ستقرر أخيراً الإفصاح عن الجهة التي سترعى أمن حدودها، للأعوام المقبلة مع مرحلة إعادة البناء طويلة الأمد، التي ستبدأ في سورية برعاية دولية محدودة على ما يبدو بدءاً من جنوب البلاد، وليس من شمالها.
ومع انتزاع الغوطة من الفصائل المسلحة وترحيل الأخيرة منها باتجاه عفرين (تحت السيطرة التركية)، كجهة لا يمكن إنكار- رمزيتها- في ظل التوافقات الثلاثية لرعاة مسار آستانة، ما ينبئ أننا أمام مرحلة استقرار لخريطة توزيع النفوذ بين الدول من جهة، وبين هذه الدول والفصائل التي تدعمها من جهة ثانية، ما يعني تقوقع الفصائل بناء على تبعيتها وإعادة رسم دورها الوظيفي، من مواجهة النظام إلى التناظر مع دوره في مناطق نفوذ الدول الداعمة لكل منهما، فبينما يستقر النظام في مناطق نفوذ إيران وروسيا، ويتحرك بناء على المساحة المتاحة له، يتم تحريك الفصائل باتجاه الأراضي التي تقع تحت النفوذ التركي في عفرين وإدلب، مما يشرح تأخر اتفاق «جيش الإسلام» أحد الفصيلين الأساسيين للمعارضة في الغوطة (غير المحسوب على تركيا) مع روسيا، بما يتعلق بوجهته ودوره الوظيفي خارج (خروجه إلى القلمون) أو داخل الغوطة بتحويله إلى «شرطة» تحت إشراف روسي ضمن اتفاق بيني غير موثوق.
ما تفرضه الوقائع الميدانية اليوم على أطراف الصراع المحلي ( المعارضة والنظام)، من انكفاء خلف الدول الداعمة لهم، وبلورة أدوارهم بما تتيحه لهم تلك الدول وفقاً لمصالحها، وانعكاساً لاتفاقاتها تارة، وخلافاتها وصراعاتها تارة أخرى، سواء على الملف السوري وطريقة إدارته، وتوجيه أدواته، أم على ملفات خارجية يتم استخدام الملف السوري كوسيلة عقاب أو ثواب، وتتغير مواقع الدول على ضفتي الصراع من خلال هذه الاصطفافات، أو مواجهتها تبعاً لموازين المصالح التي تضعها هذه الدولة أو تلك في عملياتها داخل الأرض السورية، سواء المرحلية منها أم ذات المصالح الطويلة الأمد.
فبينما تختار المعارضة القريبة من تركيا معركتها في عفرين والقادمة في منبج كأولوية لها وفقاً لإرادة أنقرة، حيث يصبح «تحرير المناطق التي تحكمها قوات كردية، أولوية سابقة على الكفاح المعلن ضد النظام السوري، رغم أن هذه الفصائل ذاتها كانت قد رفضت عرضاً أميركياً سخياً، بقيمة 500 مليون دولار عام 2015، يتلخص بتوحيد جهود الفصائل لمحاربة الإرهاب (داعش والنصرة)، معتبرة تلك الفصائل «ذاتها التي تحارب اليوم مع تركيا» أن ذلك يتجاوز مهمتها الأساسية والتي تتمحور حول محاربة النظام كأولوية لا يسبقها أي معركة أخرى، وهو الأمر الذي هيأ الفرصة للقوات الكردية لتقدم نفسها كشريك فاعل مع الولايات المتحدة الأميركية في الحرب ضد الإرهاب في شمال سورية، ما مكن تلك القوات من السيطرة على مناطق واسعة بحماية القوات الأميركية ومنها عفرين ومنبج.
وتعد تلك الاستدارة الأميركية باتجاه الاعتماد على القوات الكردية التي تعتبرها أنقرة «إرهابية»، نقطة التحول الرئيسية في الموقف التركي، الذي وجد نفسه بين فكي كماشة من جهة العداء مع روسيا إثر إسقاطه المقاتلة الروسية من نوع سوخوي عام 2015 وتبعياتها، ومواجهته مع الرغبة الأميركية وتوطين الأكراد كقوة مسيطرة في شمال شرق سورية، ما قلص خيارات تركيا لتنحصر باتجاه التقارب مع روسيا، على حساب العلاقات التركية الأميركية، وإنشاء المحور الثلاثي ( روسيا، تركيا، إيران) خلال العملية العسكرية التي شنتها روسيا ضد المعارضة في حلب، ونتجت عنها خسارة المعارضة حلب والخضوع لإرادة ما سمي مسار آستانة.
وفي الجهة المقابلة، يختار النظام معركته في الغوطة الشرقية، لتطويع محيط دمشق، وتغيير بنيته السكانية ودمج الكتلة البشرية غير السورية ضمن تعداد المقيمين في الغوطة، تحضيراً لبيئة حاضنة للوجود الإيراني كقوة حاكمة شريكة مع روسيا في سورية التي انكفأت حدودها إلى ما سمي سورية المفيدة، التي تمتد من دمشق إلى القلمون وحمص وحماة وصولاً إلى طرطوس واللاذقية وحتى الحدود مع تركيا، بينما ينتظر ما ستؤول إليه المباحثات بين موسكو وواشنطن حول درعا والحدود الأردنية.
ومن هنا يستخدم كل من القوتين الدوليتين وجوده في سورية في عمليتين متكاملتين ومنفصلتين في الآن نفسه، فحيث تعتبر إيران وجودها في سورية يضمن لها طريقاً مفتوحاً على العواصم التي تهيمن عليها من بغداد إلى بيروت مروراً بدمشق، تراهن موسكو على مبادلة الملف السوري مع الولايات المتحدة والعالم باعتراف بدورها ومكانتها كقوة عظمى، تستعيد من خلالها المكانة التي احتلها الاتحاد السوفياتي سابقاً كقطب مواز للقطب الأميركي، لضمان رفع العقوبات عنها وفك الحصار التكنولوجي وإنهاء ملف أوكرانيا والدرع الصاروخية وفتح طريق خط الغاز الذي يعيق تقدمه الوجود الأميركي في المنطقة.
وبين انتصارات النظام على أهالي الغوطة، حيث لم تعد الفصائل المنهزمة هي هدفه، وانهزامات القوات الكردية أمام القوات التركية، يكمن السؤال عن معنى الانتصارين عند النظام، الذي يستعيد بقوة روسيا وإيران سيطرته على الغوطة بينما يتناسى أن هذه الغوطة بكل مناطقها عندما ثارت ضده كانت تحت سيطرته أصلاً، ما يعني أن الهيمنة العسكرية لا تنهي الثورة الشعبية، كما أنها لم تؤسس لها بداية. والإرادة بتغيير سياسي حقيقي لا تنكفئ مع تغيير السلاح الذي يحكم المنطقة، سواء كان تابعاً للنظام، أم كسابقه للمحسوبين على المعارضة، أو الدول الداعمة لهم، وبينما يربح النظام معركة ضد شعبه، يخسر كامل سيادته أمام الهيمنة الدولية «الرباعية»، التي جعلته بالتساوي مع معارضته مجرد أداتين قابلتين للتفكيك والتغيير والسقوط لاحقاً.