محمد رشدي شربجي
كثيرون اعتقدوا -ومنهم كاتب هذه السطور- أن الهزيمة في حلب لا شك أنها ستكون حافزًا لمراجعات حادة لأخطاء الماضي تجريها جميع القوى والفصائل المعارضة العاملة داخل وخارج سوريا، وقد افتُرض حينها أن هذه المراجعات ستنتج عاجلًا أم آجلًا جسمًا موحدًا بجناحين، سياسي وعسكري، قادرًا على خوض معركة ضد خصم يزداد قوة ودعمًا، لإنقاذ ما تبقى.
ولكن كل هذه التوقعات ذهبت أدراج الرياح، فلن نؤمن حتى لو رأينا العذاب الأليم، اشتعل الشمال بحرب بين تحرير الشام (تنظيم القاعدة) وأحرار الشام، ثم انشقت عن القاعدة حركة نور الدين زنكي (صار اسمها اليوم مع أحرار الشام جبهة تحرير سوريا) وشنت حربًا على القاعدة، وهكذا غدا الشمال ممزقًا بين تحرير سوريا مهاجمة تحرير الشام، والشام مهاجمة سوريا، في مشهد سوريالي يعجز الإنسان عن وصفه.
في غوطة دمشق لم تكن الأوضاع بأفضل حالًا، شن جيش الإسلام حربًا منظمة على فيلق الرحمن وأحرار الشام، وقسمت مدن الغوطة منذ عدة سنوات بين الفصائل، ونشرت الحواجز ورفعت السواتر بين القرى، بعدها بقليل، أو خلالها، وقع جيش الإسلام على اتفاقية خفض التوتر في أستانة، تبعه فيلق الرحمن ليوقع ذات الاتفاقية في مصر، لم يكن الاقتتال هو الأول من نوعه بطبيعة الحال، ولم يكن الأخير، فقد تبعه عدة لجان مصالحة وحروب ولجان مصالحة وحروب، حتى بداية الحملة الأخيرة.
لم تكن الحملة مفاجئة بالتأكيد، فقبلها بأسبوع على الأقل تناقلت وسائل الإعلام صور وفيديوهات المدرعات وناقلات الجند متجهة إلى الغوطة، ولكن كل هذا لم يدفع الفصائل هناك لتشكيل ولو غرفة عمليات مشتركة لصد العدوان، واستمر تساقط ومدن وقرى محررة منذ ست سنوات في قبضة الأسد حتى استطاع الأخير قسم الغوطة (المنقسمة أساسًا كما قلنا، بمعنى أن النظام استبدل الحواجز الترابية التي شيدتها المعارضة بدبابات وجنود من طرفه) إلى ثلاثة أقسام معزولة عن بعضها. حتى هنا لم تفكر هذه الفصائل بعمل مشترك، وتهافتت لعقد صفقات منفصلة مع الروس سرعان ما انتهت بتهجير حرستا أولًا ثم مدن القطاع الأوسط ثانيًا. واليوم وفيلق الرحمن يخلي مواقعه في الغوطة مهجرًا إلى إدلب، لا تزال الحرب الإعلامية على أشدها بينه وبين جيش الإسلام.
لقد كانت حلب آخر معارك المعارضة السورية، وبسقوط الغوطة ستكون آخر بقعة في سوريا يحكمها إلى حد ما رجال محليون بعيدًا عن رغبة الدول قد سقطت، ولكن هذه المرة لا توقعات بمراجعات ولا أمل بتوحد ولا أي شيء من هذا، لقد كان نيتشه يقول إن أفضل المعرفة هي تلك المغمسة بالدم، فماذا نفعل إذا كانت حتى الدماء غير قادرة على تعليمنا؟ اللهم ثبتنا ولا تفتنا.