فريق التحقيقات في عنب بلدي
بينما يتحدث السوريون اليوم عن “سبع عجاف” قد تتبعها “سبع سمان”، يغيب التفاؤل عن نساء شوه الألم معالمهن، حين فقدن أبناءهن في حرب فرضت عليهن انتظار دنيا أخرى قد تجمعهن بقطعة من أرواحهن، ليصبح الموت أبسط مطالبهن في هذه الحياة.
“خنساء العرب”، “حمّالة الأسية”، “المضحية الأكبر”، وألقاب كثيرة أطلقت على المرأة السورية في محاولة لتجسيد ما آلت إليه حالها حين فقدت الابن والزوج والأخ، إلا أن تلك الألقاب رغم عجزها عن وصف حالة الأم السورية استطاعت أن تومض بحقيقة واحدة، هي أن الأم أصبحت الخاسر الأكبر في حرب لم تميز بين مدني وعسكري، وبين دين وآخر، وحتى بين المواقف السياسية المختلفة.
حالة الاصطفاف التي أصبحت من سمات المجتمع السوري، اختفت حين فقدت أمهات سوريات أبناءهن خلال سنوات الحرب الماضية، ليوحّدهن وجع واحد، فاق الاعتبارات السياسية والطائفية، تاركًا جرحًا يصعب اندماله مهما طوت السنين من أيام، ومهما استبشر السوريون بمستقبل يمحو آثار الحرب، دون أن يزيل أثر فقدان الأم لأغلى ما تملك.
ورغم الاتفاق المعلن على أن فقدان الأم السورية لابنها لا يمكن تعويضه ولو أنجبت عشرة غيره، أصبح الحديث عن حالها أمرًا أشبه بالمتاجرة بمعاناة وأوجاع عميقة، كما وصفت بعض الأمهات الأمر لعنب بلدي، مؤكدات أنهن فضلن النأي بأنفسهن والتوحد مع آلامهن بعيدًا عن ضجيج لا يعود عليهن سوى بكلمات تعاطف لا تسمن ولا تغني من جوع.
“أم الشهيد”.. تنازع دعائي ومتاجرة بالأوجاع
بالتزامن مع عيد جرت العادة أن تُكرّم فيه الأم، طغت على المشهد السوري صورة “أم الشهيد”، تلك التي مات ابنها في صفوف جيش النظام السوري، وتلك التي مات في معتقلاته، وأخرى مات ابنها وهو يقاتل في صفوف المعارضة السورية، وسط تصارع المؤسسات المختلفة على جذب بساط الصور الثلاث السابقة إلى طرفها.
وفي رحلة البحث عن الشرعية الدولية عمدت أطراف النزاع الفاعلة في سوريا إلى قلب المفاهيم، عبر التستر على صورة الحرب ووحشيتها وتلميع الوجه المدني المناقض للعسكري في بلد اختلط فيه الحابل بالنابل، وتشوهت فيه المفاهيم الإنسانية وأصبحت مشكوكًا بأمرها.
قبل أيام، وبالتحديد يوم 21 من آذار 2018، ظهر على شاشة الفضائية السورية فيلم حمل اسم “ضفائر النار”، عرض قصص فتيات سوريات فضلن الوقوف على الجبهات بدل الحياة المدنية، فيما ظهرت “سيدة سوريا الأولى” تتوسط مجموعة من المقاتلات، وتتكلم عن دور المرأة السورية عبر التاريخ، وبالطبع لم تفرط بفرصة الحديث عن “أمهات الشهداء”.
فيما سبق “ضفائر النار”، هذا فيلم آخر بعنوان “أم الكل”، عُرض في “عيد الأم” بنسخته الماضية لعام 2017، أم الكل تلك هي نفسها “أم الشهيد” التي تكرمها أسماء الأسد في كل محفل ومناسبة، إلا أنها خصت حينها أمهات حلب اللواتي فقدن أبناءهن في أثناء السيطرة على أحياء حلب الشرقية نهاية 2016.
عقيلة رأس النظام السوري، التي لم يلمع نجمها قبل عام 2011 كما هو الحال عليه الآن، أصبح “يوم المرأة العالمي” “وعيد الشهداء” و”عيد الأم” أحد أبرز النشاطات على جدول أعمالها، فظهرت تارة تكرم زوجات الشهداء وأمهاتهن، وتارة أخرى تتحدث عن دور الأم السورية في حث أبنائها على التضحية من أجل الوطن.
تلك النشاطات المدنية تأتي في سياق جذب استعطاف الرأي العام العالمي وصرفه عن انتهاكات جسيمة ارتكبت بحق الأمهات أنفسهن، فالرواية الرسمية تقول إن أسماء الأسد تشارك أمهات الشهداء آلامهن وتدعمهن معنويًا، فيما يسعى زوجها إلى منحهن ميزات إضافية ودعمهن ماديًا وتأمين مستقبل أفضل لأبنائهن، وهنا تسرد الأم نفسها في فكرة ألا شيء قد يعوضها عن قطعة من جسدها فارقتها.
وبعيدًا عن تلك النشاطات، أصبحت منظمات المجتمع المدني في مناطق النظام أمام منعطف سياسي، حين وُضعت في سياق دعاية بعثية أثبتت فاعلية شكلية في تنظيم أمور ذوي “الشهداء” ومنحهم ميزات إضافية، بينما تنتظر المنظمات نفسها في مناطق المعارضة أقرب فرصة لإثبات تلك الفاعلية ولو بجزء بسيط.
ورغم تأرجح مسيرة منظمات المجتمع المدني في مناطق المعارضة السورية، التي لم تستطع خلق فرص كافية لمساعدة أمهات “الشهداء”، حاولت جاهدة محاربة سوء الأوضاع السياسية، التي تقف ضدها، بدعم الحياة المدنية عبر نشاطات لفتت من خلالها النظر إلى قضايا مهمة، أبرزها قضية أمهات وزوجات المعتقلين والقتلى في سجون النظام، القضية التي شغلت الرأي العام دون تأثير يذكر.
وبين الطرفين، يبدو أن بعض أمهات القتلى بَدَونَ أكثر حساسية تجاه تعامل الإعلام والمنظمات السورية مع قضيتهن، مستشعرات “دناءة” المتاجرة بمعاناتهن لغرض جذب التعاطف الدولي، وأحيانًا لحصد دعم مالي من جهات خارجية، دفعت بالأمهات أنفسهن إلى التوحد مع وجعهن بعيدًا عن صخب المصالح السياسية.
سمر زيادة.. فَقدٌ يختصر حكاية داريا
عامٌ واحدٌ كان كفيلًا بقلب حياتها رأسًا على عقب، السيدة سمر زيادة، أم لخمسة أبناء، ثلاثة منهم قتلوا تحت القصف وآخران اعتقلا مع أبيهم في سجون النظام السوري، لتبدأ بعدها رحلة البحث عن خبر صغير يعيد لها شيئًا مما فقدته.
بدأت قصة سمر (40 عامًا)، في العام الثاني للثورة السورية، حين غاب ابنها الأوسط محمد دون أن تتمكن من أن تعرف شيئًا عنه، لتكتشف فيما بعد أنه كان معتقلًا في أحد فروع الأمن التابعة للنظام السوري.
في منزلها بداريا، كانت أم خالد تقضي وقتها في انتظار عودة محمد، فيما كان النظام السوري يشن حملته العسكرية على المدينة بعنف مفرط لم تعرفه الأم ولم تسمع عنه قبلًا.
“كانت ابنتي الصغيرة، صبا، تستعد لدخول الروضة بعد انتهاء عيد الأضحى“، تقول أم خالد لعنب بلدي، بينما تعرض صورة أطفالها الصغار، وتضيف “التقطنا هذه الصورة لصبا وأخويها قبل أن تذهب إلى الروضة، وكانت آخرة صورة لهم“.
لم يمض شهر على بدء دوام صبا، حتى جاء اليوم الذي سيغير حياة العائلة.
“ذهب مؤيد (10 سنوات) وأحمد (8 سنوات) وصبا (5 سنوات) مع جدهم إلى صلاة الظهر في يوم خريفي من عام 2012، وعادوا إلى المنزل، جلسوا بجانبي، قبلوني ثم ذهبوا مع جدهم من جديد لإصلاح الدراجة الهوائية أسفل المبنى”، تحكي أم خالد عن ذاك اليوم.
ما حدث بعد لحظات على غياب الأطفال أدخل السيدة سمر في حالة فقدان للوعي، إلى أن استيقظت مدماة الوجه، والدمار يحيط بها من كل جانب، كانت طائرة حربية قد قصفت المبنى الذي تعيش فيه، ودمرت نصفه.
“استفقت على صوت شبان ينادون، أخبرتهم أننا هنا في المنزل، ونُقلت مع زوجي وابني الكبير خالد إلى المستشفى (…) في الطريق إلى المستشفى كنت أمشي وأنادي أسماء أولادي، لم يكن لهم أثر، كنت أظنّ أنني أمشي فوقهم، علمت أنهم تحت الأنقاض”.
في المستشفى، حيث كانت أم خالد تتلقى العلاج، شاهدت بعض الشبان يحملون جثة طفل في بطانية ويخرجون بها من المشفى، لتدرك بعد قليل أنها جثة ابنها الصغير أحمد، “خرجت أركض خلفهم، صرت أنادي في الشارع، لكني لم أجدهم“، دُفن أحمد، ولكن ليس وحده، صبا ومؤيد كانا في الكفن إلى جانبه، لقد دُفنوا دون أن تراهم والدتهم.
عقب شفاء من تبقى من أفرادها، خرجت أم خالد مع عائلتها من داريا بحثًا عن مكان آمن، لتلاقي قدرًا ينتظرها عند أول حاجز للنظام السوري.
اعتقلت أم خالد وزوجها وابنها البكر خالد، واقتيدوا جميعًا إلى فرع المخابرات الجوية، حيث شهدت على تعذيب من تبقى من ذكور أسرتها، وعانت آلامهما بإجبارها على النظر إليهما أثناء التعذيب، ورغم أنها نقلت بعد نحو شهر إلى سجن عدرا، إلا أن خالد وأبيه لم يعودا معها مجددًا، ولم تعرف عنهما شيئًا منذ ذلك الحين.
“في المعتقل، تعمّقت جراحي حين سمعت عن قصص المعتقلات الأخريات، كان صدمة مضافة إلى صدمات أخرى، رحيل أولادي، ثم زوجي، ثم ابني، غابوا من كانوا سندي في الحياة“، تصف السيدة سمر إحدى فترات حياتها الصعبة.
خرجت أم خالد من السجن بعد شهرين وحيدةً، وقضت وقتها متنقلة بين منازل الأقارب، قبل أن تنتقل إلى لبنان ثم إلى تركيا، تنتظر أخبارًا عن ابنها وزوجها.
“أتمنى أن أجد يومًا ما خبرًا على صفحات فيس بوك يقول إن زوجي وابني قد خرجا من المعتقل“، تقول أم خالد في محاولة للبحث عن الأمل، تنبش في ركام معاناتها، كما نبشت قبل خمسة أعوام ركام بيتها لتخرج صورة أطفالها الثلاثة، وتتركها شاهدة على فقدها وحرمانها.
شيخة عباس.. “وحيدي ضحية تفجير القامشلي”
شكرت ربها أن ابنها الوحيد لم يمكن موجودًا في المنزل، حين استيقظت شيخة عباس من نومها والدماء تغطي وجهها ووجه ابنتها إيفا، وقبل أن تحاول التعرف على المكان الجديد الذي أصبح الدمار والدخان والدماء أبرز معالمه، ركضت مبشرة جيرانها أن زوجها سافر إلى دمشق وأن ابنها ذهب إلى بيت جده، مردفةً أنها وابنتها بخير.
إلى تفجير القاملشي، الذي وقع في 27 من تموز عام 2016، عادت أم آياز شيخو، واصفة ذلك اليوم “الدموي” بأن أقل ما يقال عنه “مشؤوم”، حين استيقظت على أصوات رصاص وصراخ أشبه ما يكون بفيلم سينمائي لمشاهد من بعيد، في حين كان كابوسًا بالنسبة لها ولعائلتها.
وقبل الحديث عن تفاصيل الحادثة، سردت أم آياز في وصفها لعلاقتها بابنها الوحيد، الذي أنهى دراسته الثانوية وبدأ بالتحضير لدخول الجامعة، مشيرة إلى علاقة صداقة جديدة دخلت حياتها حين بدأ ابنها أولى مراحل الشباب، وحين عولت عليه بأن يصبح سندها في نهاية العمر.
في تلك الليلة، اتجه أبو آياز إلى دمشق لتسجيل ابنه في الجامعة، حاملًا آمال العائلة بين أوراق التسجيل الجامعي، فيما أخبر آياز والدته أنه ذاهب إلى بيت جده ليلتقي أولاد أعمامه، استوحشت حينها أم آياز التي لم تعتد على النوم بمفردها في المنزل دون زوجها وابنها، ورغم ذلك لم تبد انزعاجًا من ذهابه، خاصة أنه كان بحاجة لفسحة بعد أشهر أرهق نفسه خلالها بالدراسة للحصول على شهادة البكالوريا.
وحين انتصف الليل اتصلت شيخة بابنها لتستفسر إن كان عليها أن تنتظره على الطعام أم لا، ليخبرها أنه سيأكل في بيت جده، مؤكدًا عليها أن تأكل وتنام لأنه قد يبيت عندهم، ولتطمئن أكثر أرسل لها صورة له عبر “واتساب”، قالت إنها أدخلت الفرح إلى قلبها حين شاهدته مبتسمًا، وأرفقها بعبارة “أحلى أم بالدنيا، نامي وأنت مطمئنة”.
ورغم غياب حالة الاطمئنان تلك، نامت أم آياز ساعة واحدة فقط، انقلبت حياتها بعدها رأسًا على عقب، حين استيقظت على أصوات رصاص وصراخ ومشاهد متفرقة، بدأت بدماء غطت وجهها ووجه ابنتها ودمار غيّر معالم المنزل، وانتهت بها إلى شارع مليء بالجثث والهرع “وكأنه يوم القيامة”.
غابت ملامح تلك المشاهد، التي تجاوزت حالة الوعي لدى أم آياز، حين وجدت نفسها في المستشفى وفي يقينها أن ابنها في بيت جده، وبعد اتصالات عجزت خلالها الأم وابنتها عن الوصول إليه بدأت ملامح الشك تدخل إلى ذهنها حين علمت من أقاربها أن آياز كان في طريقه للعودة إلى المنزل.
في المستشفى ذاتها التي نقل إليها الجرحى والقتلى، بحثت أم آياز بين الجثث لعلها لا تجد ابنها بينهم، في حين تلاشت آمالها حين كان آياز واحدًا من بين 50 قتيلًا استهدفتهم شاحنة محملة بالمتفجرات، في الحي الغربي بالقامشلي الذي يضم أفرعًا لمؤسسات وهيئات تابعة للإدارة الذاتية، التفجير الذي تبناه تنظيم “الدولة الإسلامية” حينها.
عام ونصف على رحيل آياز لم ولن يغير الحال التي وصلت لها شيخة عباس، رافضة تصديق الخبر وفي يقينها أن آياز سيرد على رسائل ترسلها يوميًا إلى رقم هاتفه، مؤكدة أنها ستظل تحدث صورته المعلقة في صالون المنزل، وأنها ستحتفل بعيد مولده في كل عام، رافضة أن تنعيه في ذلك اليوم “المشؤوم”.
ميساء كمون.. “ابني عريس في الجنة”
“زوّجت ابنتي قبل سبعة أشهر، كنت أرغب أن تبقى معي أكثر، لكنه النصيب”، تقول ميساء لعنب بلدي، وتضيف “كانت أريج صديقتي وكل ما تبقى لي في الحياة بعد أن استشهد زياد”.
أنجبت ميساء كمون، وهي سيدة سورية من مدينة داريا، أريج وزياد في سنّ صغيرة، وفارقتهما في عمر الأربعين، لتنتهي الأمومة عندها، وتقتصر مهامها لحياة قادمة على الذكريات.
تقلّب ميساء صور زياد المحفوظة في هاتفها المحمول، وتتحدّث عنه، “كنت أستغرب كيف تغيرت ملامحه خلال عام واحد”. تشير إلى إحدى الصور وتقول “هنا كان يبدو طفلًا”، تبدل الصورة وتستأنف “هنا يبدو رجلًا”، وليس غريبًا أن تتغير ملامحه، إذ شهد ذاك العام على إصابته، ثم اعتقاله، ثم استشهاده.
تسرد ميساء لعنب بلدي قصّة ابنها الوحيد، وتستغرق في التفاصيل، ابتداءً من “السبت الأسود” 4 من شباط 2012، حين شهدت مدينة داريا مظاهرات حاشدة، واجهها النظام بعنف، ليقتل نحو 17 من أبنائها.
ورغم أن زياد لم يكن بين الشهداء، لكنه تعرّض للإصابة بثلاث طلقات نارية اخترقت جسده، وتم نقله على إثرها إلى أحد المشافي، ولم تكن والدته تعلم شيئًا عنه بعد.
تقول ميساء، “كنت أنتظره في المنزل خلال ذلك الوقت، قرأت القرآن وحاولت الاتصال به، كنت أحس أن شيئًا ما يخترق صدري”، وتعقبّ “قلب الأم دليلها”.
حين وصلت ميساء إلى المشفى ذلك اليوم، وجدت ابنها في غرفة التوليد، حيث اضطر الأطباء لوضعه هناك خوفًا من الملاحقة الأمنية”، وللسبب ذاته تم نقله إلى مشفىً آخر، ثم إلى نقطة طبية في أحد المنازل، قبل أن تعيده والدته إلى منزلهم.
“أزالوا إحدى كليتيه، وجزءًا من أمعائه، كما تعرض لتضرر في الكبد والبنكرياس”، تقول ميساء، وتضيف راسمة في حديثها خطًا زمنيًا يرسم مفصلًا في حياتها “عقب إصابته كان يصر على الخروج في المظاهرات مجددًا، كنت أريد أن آخذه وأخرج من سوريا، هو سندي في الحياة بعد والده”.
لكن زياد أصر على مواصلة العمل الثوري، إلى أن تمّ اعتقاله في أحد فروع الأمن، حيث تعرّض للتعذيب بصور عدّة، اختبرتها والدته عن بعد، وعاشتها كما عاشها هو “كنت أشعر أني معه، أحس بالكهرباء التي تخترق جسده، والضربات التي يتعرّض لها. علمت تمامًا أنه سيخرج أقوى مما كان عليه، وأكثر إصرارًا على مواصلة العمل الثوري”.
عقب خروجه من المعتقل، أصرّ زياد على الانضمام إلى مقاتلي الجيش الحر، على الرغم من تخوف ميساء التي طلبت منه العدول عن القرار، لكن زياد كان يصرّ على العمل، وتقدّم صفوف المقاتلين، أما والدته فكانت تلازمه لتعتني به، وتعدّ الطعام لأفراد مجموعته.
“قبل يوم من استشهاده، ظل يقبلني ويلاعبني خلال الليل، وأوصى خاله ليعتني بي، وفي الصباح استحم وتعطر وصلّى وقال لي أنا ذاهب إلى الجنة”، تصور ميساء مشهد ذلك اليوم بتفصيل شديد، كأنها تريد أن تحتفظ بآخر مشهد لزياد وهو حيّ.
ثم تبدأ النهاية حين زفوا لها الخبر “ابنك صار عريس، استشهد”، تقول ميساء، ويغلب المجاز على كلماتها “حين وصلت لأراه كانوا قد ألبسوه ثوب العرس، حاولت أن أضمه وأحمله لكنني لم أستطع، ابني الصغير كان أصبح رجلًا”.
سلوى طه.. “الفرح الغائب مع عمران”
“لم يكن عمران كأي طفل”، تختصر السيدة سلوى طه الحديث عن خمسة عشر عامًا قضاها ابنها تحت جناحها، قبل أن يتحول إلى رقم في عداد ضحايا الحرب السورية، وتبقى صوره محفورة في ذاكرة والدته وإخوته.
تستعيد سلوى، وهي من سكان مدينة تلبيسة في ريف حمص الشمالي، مراحل حياة ابنها القصيرة، وتعود بالذاكرة إلى طفولته المبكرة، لتسرد تفاصيل اهتماماته، “كان يحب الحيوانات الأليفة؛ الكلاب والقطط، شيء أشبه بالفضول كان يشدّه إلى هذه الكائنات”.
تتحدث الأم عن ابنها “البريء”، وتوظف لذلك ألفاظًا لطيفة، “كانت تصرفاته مهذبة، وحديثه جميل، حتى شكله كان جميلًا”.
ورغم أن أولادها الآخرين ما زالوا بجانبها، تركت وفاة عمران فراغًا كبيرًا أصاب منزلهم وأفقده رونقه وبريقه السابق، حين كان عمران “يملأ المنزل بالحياة”، كما تصفه والدته.
وكانت مدينة تلبيسة من أولى المدن السورية التي انتفضت ضدّ النظام السوري، ومن أكثر المدن التي تعرضت لنيران النظام منذ بدايات الثورة عام ٢٠١١.
وإلى جانب العشرات من الأطفال في مدينته، كان نصيب عمران أن يصاب بشظايا انفجار وقع قرب بيته، وكان مصيره أن ينتظر موته في المستشفى إثر الإصابة البالغة التي تعرض لها.
“استشهد عمران في الثالث من نيسان عام 2014، كان مارًا بالصدفة قرب مكان التفجير، وبقي 14 يومًا في المستشفى”، تتحدث والدة عمران عن أحد أصعب أيام حياتها، وتضيف، “منذ أول يوم أصيب فيه عمران شعرت أنه توفي، فقدت ابني”. كان شعورها أقوى من أن يغلبه نداء الأمل والأماني، إذ اختبرت أم عمران بوفاة ابنها “شعورًا لا يمكن وصفه”.
السيدة سلوى هي واحدة من مئات الأمهات اللاتي خسرن أبناءهن في محافظة حمص، حيث يصل عدد الضحايا فيها إلى نحو 18 ألفًا أغلبهم من المدنيين.
أربعة أعوام مرّت على وفاة عمران، لكن والدته لا تزال تشعر أن “كل شيء تغير من حولها”، وتختم، “لم أخسر عمران فحسب، بفقدي له خسرت الكثير”.
“شهداء” ومهاجرون ومعتقلون..
أمهات سوريا خسرن الكثير
رغم هول الأرقام التي تعرضها شبكات توثيق ضحايا الحرب في سوريا، هناك مأساة أكبر من الأرقام تختبئ في ذاكرة آلاف الأمهات السوريات اللاتي فقدن أبناءهن في الحرب.
ولا يعني الفقد بالمفهوم السوري الموت وحسب، بالنظر إلى وجود آلاف المعتقلين والمغيبين قسريًا لدى أجهزة الأمن التابعة للنظام، فضلًا عن هجرة ملايين السوريين، وتفرّق مئات آلاف العائلات منذ اندلاع الحرب في سوريا.
تشير الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى أن ما يزيد على 217 ألف مدني موثقين قضوا في سوريا منذ آذار 2011 وحتى آذار 2018، 89.77% منهم على يد النظام السوري، إضافة إلى آلاف الضحايا الموثّقين في ذاكرة ذويهم فقط.
ووفق الإحصائية ذاتها فإن أكثر من 13 ألف شخص قتلوا تحت التعذيب على يد قوات النظام السوري، بينما لا يزال أكثر من 118 ألف سوري قيد الاعتقال الاختفاء القسري.
الهدف الأضعف
خلال الأعوام السبعة الماضية بدا الأطفال هدفًا سهلًا لآلات الحرب، التي تسببت بمقتل 27296 منهم منذ آذار 2011، أكثرهم من الإناث.
وقدّرت منظمة الأمومة والطفولة التابعة للأمم المتحدة (يونيسيف) عدد الأطفال المتأثرين من الحرب بـ 8.4 مليون طفل، أي ما يعادل أكثر من 80% من عدد الأطفال في سوريا، سواء داخل البلاد أو كلاجئين في الدول المجاورة، مع الإشارة إلى أن أكثر من 3.7 مليون طفل سوري، أو ما يعادل واحدًا من أصل كل ثلاثة أطفال سوريين، وُلدوا منذ بدء الحرب، وفق تقديرات (يونيسيف) لعام 2016.
من ناحية أخرى، يشكل الأطفال نحو نصف إجمالي اللاجئين السوريين حول العالم، والذين تجاوز عددهم خمسة ملايين منذ بدء الحرب في سوريا، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
وكان المكتب الإحصائي الأوروبي “يوروستات”، قدر عدد الأطفال السوريين الذين قدموا طلب الحماية الدولية دون ذويهم، لدى دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي بنحو 11 ألفًا، في عام 2016 فقط.
القضية المغيّبة
يقول المثل الشعبي إن “والدة الشهيد تنام ووالدة الأسير لا تنام”، وهي حال آلاف الأمهات السوريات اللاتي يجهلن مصير أبنائهن، ويعشن معلّقات بين الأمل والحداد.
سجّلت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما يزيد على 118 ألف شخص قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري منذ عام 2011
ورغم ذلك لا يزال ملف الأسرى والمعتقلين إحدى أكثر القضايا وعورة في الحرب السورية، إذ لم تفلح المحاولات السياسية للكشف عن مصير المعتقلين والإفراج عنهم، في الدفع باتجاه حلحلة هذا الملف.
وإلى جانب المعتقلين لدى النظام، تبرز قضية “أسرى” التنظيمات المتشددة الذين يبدو مصيرهم أكثر ضبابية في ظل استخدامهم كدروع بشرية خلال المعارك، فيما تسهم فصائل المعارضة والتنظيمات الكردية في تغييب أكثر من أربعة آلاف سوري إلى اليوم.
في كل بقاع الأرض
غادر أكثر من 5.4 ملايين شخص سوريا منذ عام 2011 بحثًا عن الأمان في البلدان المجاورة (لبنان، العراق، الأردن، تركيا)، إضافة إلى الدول الأوروبية وغيرها من دول العالم.
وتأتي تركيا في المرتبة الأولى من حيث استضافة اللاجئين السوريين، إذ تستضيف ما يعادل 46% من إجمالي اللاجئين السوريين على مستوى العالم، فيما تستضيف الدول الأوروبية ما يعادل 11% منهم.
على المستوى الداخلي، نزح ملايين المدنيين داخليًا في محاولة للهرب من المناطق الأكثر عرضة للقصف، والأقل دمارًا، كما أدت التسويات والمصالحات في بعض المناطق السورية إلى تهجير عشرات الآلاف من السوريين إلى مناطق أخرى.
وخلقت أزمتا اللجوء والنزوح أزمات عدّة متمثلة بتشتت عائلات كاملة، وفقدان آلاف الأهالي لأولادهم دون أن يتمكنوا من التأكد ما إذا كانوا أحياءً أم أمواتًا.