ياسر نديم سعيد
واجه المثقفون العلويون القلائل الذين انتموا للثورة أو أعادوا نشاطهم السياسي في هيئات المعارضة المختلفة، تحديات معرفية ونفسية أجبرتهم على إعادة التفكير في كل ما كانوا يثقون بصحته خلال سنوات طويلة.
وشعر هؤلاء بتمرد مجتمعات الثورة وجمهورها على كل الرموز الثقافية لنظام الأسد، بمن فيهم العلويون على وجه الخصوص، الأموات منهم والأحياء، بصرف النظر عن مواقفهم وسلوكهم قبل الثورة وبعدها.
وكما كان متوقعًا فقد توزع نشاط معظم هؤلاء، على قلتهم، في المعارضة “الداخلية” أكثر من “الخارجية”، وفي النشاط السلمي دون العسكري، وفي الهيئات الأقرب لنظام الأسد، وفي البرامج الإصلاحية والانتهازية أكثر من البرامج الثورية.
معظم هؤلاء هم، بطبيعة الحال، من أكثر الداعين للمصالحة والتسامح ووقف العنف وحقن الدماء والحفاظ على ما تبقى من “الدولة” و”الجيش” و”الوطن” مع بعض الإصلاحات، أي الحفاظ على الأساس الاجتماعي والسياسي للنظام مع بقاء الأسد نفسه أو بدونه.
ومع ذلك يخوض هؤلاء المعارضون فيما بينهم نقاشًا حامي الوطيس، لأول مرة ربما، منذ اندلاع الثورة السورية حول المعاني المختلفة للنظام والشعب والوطن والثورة في سوريا.
وبرز هذا النقاش للعلن عدة مرات في مناسبات مختلفة، مثل تنادي بعض الناشطين العلويين لتوقيع بيانات مندّدة بالمجازر الطائفية، وانعقاد مؤتمر كلنا سوريون مرتين، أو عندما هدّد الأمريكيون بضربة عسكرية للنظام، إذ دار النقاش حول الخوف من سقوط النظام وتداعيات هذا السقوط على العلويين، أو كلما أثير موضوع انفصال العلويين، ونظام المحاصصات الطائفية، أو ردًا على الدعوات الإقصائية للعلويين عن الحياة السياسية في سوريا المستقبل.
كانت النقاشات مشوبة دائمًا بالكلام عن خوف العلويين المزمن ومظلوميتهم التاريخية، وبالشعور المتفاقم خلال الثورة خاصة بالعزلة والكراهية المجتمعية، وبكلام الآخرين عن امتيازاتهم السابقة والحالية وعصبيتهم.
هناك خجل عند البعض من انتمائهم الطائفي، مقابل الفخر بذلك عند البعض الآخر، وهناك رغبة بإظهار حسن نية تجاه الآخر تلبية لنداء ضمير شخصي أو جمعي.
لكن هل هي مواقف فردية “مشرّفة” أم مجرد تسجيل موقف للتاريخ، هل هو تبرؤ من الهوية العلوية لصالح الهوية السورية، أم أن الأمر مجرد تبرؤ من آل الأسد، وكيف السبيل لحماية الأبرياء العلويين؟
حاولت مقالات ودراسات عديدة نشرت أثناء الثورة الخوض في المسألة الطائفية في سوريا، كما نشأت تجمعات للمثقفين العلويين افتراضية وواقعية، وانقسم المثقفون العلويون دائمًا حول طريقة فهم هذه المسألة الطائفية الخاصة وسبل الخوض فيها، وأحيانًا لمجرد فكرة البحث فيها، لتدور أسئلة كثيرة تنقل الانقسام والازدواجية في الطرح ومنها:
سؤال الهوية: من هو العلوي، هل هناك شعب علوي، ما هو دور عصبيتهم الاجتماعية المستغرقة لكل تنوعاتهم ومواقفهم، وهل يشكل العلويون كيانًا متجانسًا أم أن الفروق المناطقية بينهم تحدث فرقًا؟
ما هو دور العقيدة في سلوك العلويين، هل هي عقيدة عنصرية عدوانية، ما هو دور التشيّع الديني أو السياسي في تحطيم الذات العلوية؟
هل هناك مسألة علوية، وما هي المقاربات المختلفة لهذه المسألة، ماهي طبيعة النظام، هل هو نظام علوي، أم هو نظام سياسي تسانده الطائفة، هل هي أسدية سياسية أم أنها علوية سياسية؟
وهناك من يدعو إلى عدم الخوض إطلاقًا في كل هذه المفاهيم لأن الموضوع برمته سياسي بحت، أو من يعتقد أن الخوض في الباطنية الدينية والسياسية يؤدي إلى إعادة إنتاج الصراع الديني وتكريسه، أو من يعتبر الخوض بهذه الأمور سقوطًا منهجيًا في نظرية المعرفة، أو من يعتبر أن المشكلة كلها تكمن في وجود أقلية مسلحة عند الطرفين ويجب استنهاض الناس ضد الحرب والعودة إلى مفاهيم ما قبل الحرب والدعوة لدولة المواطنة.
هناك جدل أيضًا حول المخارج المتخيلة للمأزق الطائفي؛ انتفاض الطائفة ضد الأسد وسحب التوكيل منه، أو المشاركة الفعالة بالإغاثة والتحرك باتجاه المناطق المنكوبة والسلم الأهلي، أو العمل السياسي في تنظيمات وهيئات المعارضة المختلفة كتمثيل للعلويين.
وربما ذهب البعض بعيدًا إلى فكرة البحث عن مرجعية جديدة للعلويين (غير مرجعية الأسد)، تتكون من نخبة من حكماء ومثقفين ورجال أعمال ومشايخ ووجهاء يجتمعون في مجلس أعيان، أو رابطة، أو منظمة مدنية… إلخ.
هناك مشكلتان كبيرتان تواجهان المخارج المفكّر بها، أولهما النظام نفسه الذي لا يتكلم أبدًا عن العلويين، ولا يتكلم باسمهم، ويتجنب دائمًا مشكلة مخطوفين علويين من أجل مبادلتهم بمعتقلين.
النظام يتعامل مع المشاكل الطائفية في اللاذقية وطرطوس بحذر وحكمة لا نجد مثيلًا لهما في مناطق أخرى في سوريا، في حين يجد بالمقابل أريحية كاملة في الحديث المباشر العلني عن المسيحيين مثلًا مع الغرب.
إنه نظام لا “يلوّث فمه” علنًا بالحديث الطائفي العلوي، بل يترك هذا الحديث للآخرين الذين يتهمهم بإثارة الفتن الطائفية، والملفت للانتباه أن هناك مثقفين علويين معارضين يشاركون النظام نفس الصمت المطبق عن الحديث العلني المباشر عن العلويين تحديدًا.
المشكلة الثانية هي نظرة الآخرين إلى المثقفين العلويين المنخرطين في الثورة أو المعارضة، فمنهم من يعتبر العلويين، شاؤوا أم أبوا، ممثلين عن طائفتهم وبالتالي يمكن الاستفادة منهم في مشاريع المحاصصات الطائفية، ومنهم من يعتبرهم مشروع علوية سياسية حاكمة أخرى ولكن معارضة للأسد، ومنهم من يعتبرهم مجرد عملاء للأسد نفسه.
كيف يمكن لهذا الوعي الشقي أن يهرب من ازدواجية نظرته إلى نفسه ونظرة الآخرين لها، دون أن يتمزق؟ سؤال يمسّ ربما معظم مثقفي “الأقليات الدينية والقومية أيضًا في الثورة والمعارضة.