عنب بلدي – العدد 140 – الأحد 26/10/2014
نقرأ التاريخ فيحدثنا عن ويلات خلفتها الحرب من قتل وتدمير وإبادة ومجاعات، وأجيال مشوهة، وأناس مهجرة، وآخرين التحفوا العراء منازل لهم، يركلهم تجار الحرب ومستغلو الأزمات بأرجلهم، من واحد لآخر وصولًا لتحقيق مأربه، ونسمع مع كل قصة حرب، آهات الأسرى والمعتقلين، وكذا أنّات أهالي المفقودين، الذين يوارون تحت الثرى حتى قبل الاطمئنان عن أبنائهم، وبالوقت ذاته نجد آخرين يفقدون أعضاءهم، أو يتعرضون للتشوه والإصابة بعاهات دائمة، أو لتفشي وباء لا دواء له، وربما يتعرض المحاصرون للموت جوعًا، وكذا الصامدون على الجبهات يتضورون جوعًا أو بردًا أو حتى حنينًا.
أما ما لم يحدثنا التاريخ عنه هو لاإنسانية الإنسان أثناء الحرب، فإنك تخال البعض وقد تحول وحشًا يكشّر عن أنيابه، بحجة أن الحرب فُرضت عليه، ولم يكن له يد فيها، ولا طائل من ورائها، أو ربما بحجة أنه كان يدلي بنصائحه لإحدى الفئتين لتختار طريقًا ناجحًا، فلما لم تأخذ بنصائحه هوت بنفسها وبالشعب إلى الجحيم، ناهيك عن تنصيب البعض أنفسهم المهدي المنتظر الذي جاء ليخلّص البشرية من آلامها، والأقسى من ذلك كله أن ينقسم المجتمع إلى طبقات يفصل بين واحدة وأخرى كمية –نعم كمية- التضحية التي قدمها أبناء تلكم الفئة من شهداء وأسرى ومفقودين ومصابين ومهجرين، بغض النظر عن موقف تلكم الفئة من الحق، وبعد هذه القساوة تأتيك بعضًا من أفراد الطبقة المخملية مضافًا لهم صفة التطنيش عما يجري حولهم، فهم غير قادرين حتى على مجرد استنكار ما يحصل.
ترى لينا (28) عامًا أن الطبقة الأخطر على المجتمع أولئك الذين يمارسون شغفهم السياسي، وهم يحققون أهدافهم، دونما أن يهتز لهم طرف حين مرورهم على كرامة وأشلاء الآخرين، فهم تجار حرب بامتياز، بينما يعتقد خالد (32) عامًا بأن أزمتنا تتجلى في تنصيب فئة نسميها “النخب” ليحلوا ويعقدوا أمورنا، وكأننا دمى بأيديهم، يصطنعون الأوهام لتخويفنا من أجندة لصالح أخرى، ويحث على نبذ فكر هؤلاء، وإفساح المجال أمام الناس لتفكر بعيدًا عن أولئك النخب وتعقيداتهم.
تتألم ريم ابنة الاثني عشر ربيعًا من فكرة التفاوت الطبقي حتى ضمن صفوف الدراسة، وكأن صكوك الغفران بيد مجموعة دونما أخرى، حسب ما حيز لآبائهم من امتيازات، بل ويتعدى الأمر ذلك ليصل حد التمايز المفتعل نتيجة تباين الألوان ودرجات الجمال بين زميلاتها، في حين تتعامل السيدة سمر (مديرة إحدى مدارس مدينة دمشق) بوجهين مختلفين تمامًا بين سكان المنطقة الأصليين والمهجرين من مناطقهم، إذ تعتبر أن القادمين من الريف بحاجة إلى بذل المزيد من التوعية والتثقيف لهم، وأنه من الخطأ دمجهم مباشرة بمجتمع المدينة، قبل أن تخرج من أنوفهم رائحة البقر والماعز، على حد تعبيرها، ليشاطرها الرأي أحد الأطباء المشرفين على المدرسة، والذي يعتبر أن من حق أبنائه العيش باستقرار فكري بعيدًا عن الفكر الملوث الذي يحمله أبناء الريف، فقد بات قلقًا من إرسال أولاده إلى تلك المدرسة، خوفًا من اختلاطهم بتلك الفئة المهجرة من ديارهم، والتي تركت هناك كل شيء –كما يدّعي- حتى أفكارها وقيمها، ويستنكر أي تفوق يحرزه أحد أفراد تلكم الفئة، مشيرًا بأصابع الاتهام له “أنّى لك هذا؟”.
ربما يذكرنا هذا الواقع بسذاجة ذاك الحوار الذي دار بين قطعة الورق والحديد والقلم، وهم يحددون أيهم أكثر نفعًا، ناسين –أو ربما متناسين- أنه لا فائدة لعنصر ما دون أن يوجد من يشد عضده، ثم يأتيك الأقسى من ذلك كله –إلى الآن- على ما يبدو، الأم أو الأب الذين يلجؤون إلى تصنيف أبنائهم، بين مطيع وعاصٍ، وجميل وقبيح، ونشيط وخامل، وغيرها الكثير، فما إن يخرج الفتى من كونه ضحية للانقسام والتفتت الأسري، حتى يقع تحت وطأة انقسام مجتمع يعاني صراعات ترفع لافتات الحرية والديمقراطية والعيش المشترك، كحمار يحمل أسفارًا، لا يفقه مما يقول حرفًا، وأنت… مع أي طبقة؟