حذام زهور عدي
أخجل أن أتحدث عن يوم المرأة العالمي وسيدات الغوطة يعانين الويلات في الأقبية السوداء. صحيح أن هذا اليوم صنعته نساء أمريكيات احترقت أجسادهن قبل أكثر من قرن لأنهن طالبن برفع أجورهن، لكن ما تعانيه نساء الغوطة تجاوز تلك العذابات بمراحل، ليس لأن أجسادهن احترقت بالفوسفور والكيماوي فقط، ولكن لأنهن عانين من ذلك وأكثر، وأطفالهن وأبناؤهن يحترقن أمام أعينهن ولا معين، وأسرهن الكبيرة والصغيرة قد تكون تحت الركام، تُدمّر منازلهن ويُهجرن من الأراضي التي امتزجت بعرق الأجداد، والتي أطعمتهم وآوتهم من جوع وبرد وحر، أراضيهن التي دمرها الطغاة لم تعد تصلح لزرع أو ضرع. إن ما يعانين منه هو كارثة جماعية قلما شهد التاريخ مثيلًا لها حتى في أكثر لحظاته سوادًا.
أخجل أن أتحدث عن “عيد الأم” وعما يحدث من احتفالات وهدايا.. وأمهات سوريا، والغوطة خاصة، يقطعن من أجسادهن لقيمات ليستمر أطفالهن بالحياة.
أخجل من الحديث عن يوم الطفل وحقوق الطفل، وأنا أرى أجساد أطفال سوريا تشوى بنيران الصواريخ والكيماوي والجوع والمرض والغرق بالبحار، وأن يكون أفضل ما يأكلون -إن وجد- طحين الشعير المغلي بالماء.
كيف لهذا العالم في القرن الواحد والعشرين أن يرى كل هذا، ويسمع بكل ذلك، ويُنكر ذاته وإنسانيته إلى هذه الدرجة؟!
كيف لي أن أومن بأن في هذا العالم هيئات لرصد انتهاكات حقوق الإنسان ومجالس أمن ترصد السلام العالمي ومنظمات لصيانة الطفل والمرأة والأسرة، وأمم متحدة لا تستطيع جميعًا أن توقف المقتلة السورية، ثم تزعم أنها أنشئت لمنع حدوث ما حدث ويحدث ويستمر بالحدوث منذ سبع سنين حتى لا يتبين آخر خط سواده، ثم تقف مكتوفة اليدين تجاهه؟
ما الذي تفعله مجتمعات دول العالم لنساء دول تُغيّب سلطاتها أصوات نسائها التي تطالب بأبسط حقوقها، كحق الحياة مثلًا، وتستقبل منظمات مزيفة هدفها طلاء وجه البشرية على وحوش العدالة الإنسانية وتبرير أنواع غريبة من الانتهاكات والجرائم، واللعب مع الأسياد بالاتفاقيات الدولية، وأبرزها اتفاقية “سيداو” (القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة)، من أجل أن يُمعنوا في سجن نسائهم بسجون الجهل والتخلف وبممارسة أسوأ أنواع الديموغوجيا والخزعبلات، منظماتهم تلك وظيفتها الأهم والأبرز كانت رصد كل امرأة حرة لجرها وأسرتها إلى المعتقلات والأجهزة الأمنية، لأن صوتها قد يزلزل يومًا ما، كرسيهم الذي دمر الوطن، أما المطالبة بحق من حقوق النساء السوريات فمرفوض بدعوى مخالفة الأعراف أو الشريعة. يتحدثون عن العلمانية والحضارة، والنضال الوحيد المسموح هو العمل على الحفاظ على كراسيهم إلى الأبد من الوالد للولد.
ليست العلمانية، يا إماء النظام الأسدي، بالتعري أو بتحميل النساء السلاح لتقتل أبناء الوطن، وليست بنزع الإنسانية من نفوسهن وإلقائهن بغياهب التوحش والبربرية، بل هي بقوانين الديمقراطية والمواطنة التي تسمح بانتقال الفتاة الراشدة من مكان لآخر دون حواجز قانونية، ومساواتها الإنسانية مع أخيها الشاب في ذلك، فهل تجرؤ أي منظمة “شعبية” أوحتى منظمة الاتحاد النسائي بالمطالبة بهذا الحق مثلًا، هل استطاعت تلك المنظمة أن تحصل على إعطاء حق الجنسية لأولاد الأم السورية الذين ولدوا في سوريا وتعلموا في مدارسها ورددوا ثغاء إلى الأبد كل صباح، ولم ينطقوا بلغة أخرى منذ ولادتهم غير العربية ولم يعرفوا وطنًا غير سوريا؟ ما الذي فعلته تجاه عقوبة جرائم الشرف غير أن مددت عقوبة الفاعل بضعة أشهر؟
هل ناضلت تلك المنظمة العتيدة ضد الاغتصاب كنوع من التعذيب في المعتقلات؟ وهل استطاعت تغيير جرائم المسؤولين عن سجون النساء وأوقفت تشغيل المسجونات بالدعارة وتسويق المخدرات؟ أم أنها تخاف فضح علاقة أهل النظام الأسدي وزعزعة استقراره فصمتت وتجاهلت وتحولت إلى بوق أكاذيب؟
ليست هذه هي العلمانية، التي يسوّق النظام وإماؤه لها ليتقبله العالم المتحضر، حتى لو كانت فتياتهم تحمل السلاح وتفاخر بقنص شباب الوطن الواحد، وعندما يعدن لمنازلهن يتلقين صفعات رجال العائلة ويمنعن من الإرث ومن حرية الزواج أو السفر وتمارس أنواع من الاغتصاب عليهن، عدا عذابات التهجير والحصار والموت.
العلمانية أن تكون السوريات حرائر ينجبن الأحرار الذين يناضلون من أجل الديمقراطية والحقوق الإنسانية للمرأة التي تمنع مجتمع الخرافات والجهل من التحكم بحياتها ومصيرها أو مصير أسرتها، العلمانية أن يمنع نظام التوحش والبربرية من افتراس كل ما هو جميل وإنساني في المرأة عامة والسورية خاصة.
التحية لنساء سوريا الحرائر اللواتي يدافعن عن حرية المرأة وكرامتها من خلال ما يلقينه من آلام ومعاناة.
التحية لنساء الغوطة الصابرات المحتسبات، اللواتي يعشن في الأقبية ويصنعن المعجزات ليحفظن حياة أطفالهن.
التحية لتلك التي تسرب كل يوم رسالة تؤرخ فيها أيام الاحتباس بالأقبية وتصف ما يلاقينه وأطفالهن من ويلات البربرية.
التحية لفريق الدفاع المدني وللطبيبة أماني بلور، التي ما زالت تحت القصف تبذل الجهد الممكن لإسعاف من تستطيع إسعافه رافضة مغادرة الغوطة.
التحية لمن اغتصبت في معتقلات نظام التوحش ظلمًا وعدوانًا وماتت تحت التعذيب أو خرجت لتلاقي مجتمعًا يحول عذاباتها إلى جريمة كأنها ارتكبتها بمحض إرادتها.
وليس آخرًا التحية إلى رزان وسميرة سيدتي المختفين قسريًا، ورمزي حرية المرأة السورية.
لمثل هؤلاء النسوة يليق الاحتفال بيوم المرأة العالمي.