فريق التحقيقات في عنب بلدي
انقضت سبعة أعوام على إطلاق أول صرخة “حرّية” في سوريا، كمطلب شعبي للتخلّص من عقود القمع وتكميم الأفواه، ليجد السوريون اليوم أنفسهم وسط مجموعة من المعطيات العسكرية والسياسية والاقتصادية، تجعل من استشراف المستقبل السياسي لسوريا أمرًا صعبًا للغاية.
رغم سوء ما وصلت إليه الأوضاع في البلاد، إلا أن الأفق الذي فتحته الثورة، والسقف الذي رفعته مطالب التغيير، يجعل من الاستحالة عودة سوريا إلى ما كانت عليه قبل الحراك الشعبي في 2011 على الصعيد السياسي والمدني، إذ خرق السوريون على مدار السنوات الماضية قاعدة “قائد واحد، حزب واحد، إعلام واحد”، وكسروا احتكار “البعث” للحياة السياسية، كما ابتلع فيض المنظمات المدنية رهبة “مؤسسات الروتين والبيروقراطية” الحكومية، وحرك حس المسؤولية المجتمعية.
على المستوى الاجتماعي، يمكن القول إن مساحة “المشاركة” التي توفّرت للسوريين في المؤسسات المدنية أو السياسية، إضافة إلى التخلّص من مخاوف “الحديث في السياسية” وما كان يترتب عليه من ملاحقة أمنية، خلقت حالة من “التحرر” النفسي لدى السوري، لم يعد من الممكن الاستغناء عنها، الأمر الذي يتجلى في التعبير الواضح عن رفض المواطنين لأي سلطات مدنية أو عسكرية غير مرغوبة في أوساط الثورة، أو تلك التي تخضع لسيطرة “المعارضة”، إضافة إلى تحوّل الجمهور إلى رقيب يحاسب جهات المعارضة السياسية على زلاتها وأخطائها.
ولعلّ ذلك يعدّ دليلًا واضحًا على أنّ الثورة السورية فتحت ثغرات في جدار الخوف، الذي استمرّ نظام الأسد في تشييده أربعين عامًا، مستعينًا على ذلك بالحيل الاجتماعية وقبضات الحديد العسكرية، والممرات السياسية الضيقة التي تؤدي إلى “الحزب الواحد”.
ويمكن لتلك الثغرات أن تكون بوابات يمرّ منها السوريون إلى مرحلة “التحوّل الديمقراطي”، التي تقوم على إعادة توزيع القوة في أي سلطة سياسية قادمة ليكون للشعب النصيب الأكبر منها مقابل الحكومة.
منظمات مدنية.. قوة مجتمعية
لم تكن ثقافة العمل المدني شائعة في سوريا حتى بداية القرن الواحد والعشرين، إذ اقتصرت على بعض الجمعيات الخيرية، ومؤسسات كفالة الأيتام الخاصة، التي كانت تعمل في مجالات ضيقة وتحت رقابة أمنية صارمة.
شهد ذلك الوضع نقلة كبيرة بعد انطلاق ثورة سوريا، إذ تم تأسيس ما يزيد على 800 منظمة سورية منذ 2011، وفق تقرير “إنشاء خريطة الحراك المدني في سوريا”، الذي أصدرته منظمة “مواطنون من أجل سوريا” في العام 2016.
وتختص هذه المنظمات في مجالات تبدأ من الإغاثة والتعليم مرورًا بالإعلام والتنمية والإسكان وصولًا إلى التمكين السياسي.
الناشط السياسي، معتز مراد، يرى أن الثورة السلمية فتحت الباب أمام الشعب السوري للتعرف على نشاطات مدنية لم يعتد عليها خارج مظلة الدولة، ويضيف في حديثه لعنب بلدي أنه رغم صغر تلك المؤسسات وضعف إمكانياتها إلا أنها تسعى إلى وضع بصمتها وترك أثر مهم في حياة السوريين.
ويأخذ ذلك الأثر أشكالًا عدة، سواء فيما يتعلق بتغطية النقص في القطاعات الخدمية في أغلب المناطق السورية، وتوفير بدائل مهمة لمؤسسات الدولة، إضافة إلى تعزيز التكافل الاجتماعي، أو التوعية والتمكين في مجالات كالسياسة والتكنولوجيا، فضلًا عن محاولات تعزيز دور المرأة وتمكينها على مستويات عدة، وخلق فهم مختلف عما كان سائدًا في السابق لدورها الاجتماعي.
كما نشطت منظمات حقوقية سورية تعنى برصد وتوثيق الانتهاكات بحق المدنيين في البلاد، تجاوز عددها العشرات، بفعل كمّ الانتهاكات في سوريا، وخرجت بصور عدة، من بينها “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” و”سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” و”المركز السوري للدراسات وحقوق الإنسان”.
ورغم الإمكانيات المحدودة والمعوقات التي واجهتها تلك المؤسسات، من ضعف خبرات الكوادر وتذبذب الدعم المادي، استطاعت وضع بصمة في عالم حقوق الإنسان، وتمكنت من الحديث والتأثير في المحافل الدولية، باسم ضحايا الحرب في سوريا.
على الصعيد الأمني، وفّرت منظّمتا “الدفاع المدني السوري” و”الشرطة الحرّة”، بديلًا للمؤسسات الأمنية والشرطية لدى النظام، وتمكّنت من إحداث تغيير في صورة “عنصر الأمن” أو “الشرطي” في مخيلة السوري.
ويمكن الإشارة إلى تلك المنظمات على أنها خلقت أساسًا لعملية التحوّل الديمقراطي، التي تعرف أكاديميًا بأنها “توزيع القوة بحيث يتضاءل نصيب الدولة منها لصالح مؤسسات المجتمع المدني بما يضمن نوعًا من التوازن بين كل من الدولة والمجتمع”.
حرية التعبير.. إعلام واعد
أرهقت صفحات “التنسيقيات المحلية” على “فيس بوك” النظام السوري في وقت مبكر، إذ تحولت إلى وسيلة تحول دون إخماد الثورة الشعبية، المتمثلة بالمظاهرات السلمية حينها.
ورغم أن النظام نجح بعد عامين من انطلاق الثورة في إيقاف المظاهرات، تحولت تلك الصفحات إلى وسائل إعلام، أخذت بدورها تزداد وتتطور، إلى أن فاق عددها 400 في عام 2014 وفق أكثر من إحصائية محلية ودولية، لا تزال العشرات منها تعمل حتى الآن، بوتيرة منتظمة وسوية عالية.
وعلى الرغم من ضعف الخبرة الإعلامية لدى السوريين نتيجة احتكار السلطة لوسائل الإعلام على مدار أربعة عقود متصلة، استطاعت الشبكات والإذاعات والصحف والمواقع الإلكترونية التي أطلقها الناشطون الثائرون أن تبلغ مرحلة من المهنية، لم تستطع وسائل الإعلام المحسوبة على النظام أن تجاريها.
إضافة إلى الخبرة والمهنية التي حظي بها الإعلاميون السوريون المعارضون للنظام، يمكن القول إن أبرز قيم عملهم تتمثّل في امتلاكهم حرّية كاملة في التعبير، لم تتوفر لديهم في السابق.
وعلى الرغم من أن هذه الوسائل تواجه تحديات وعقبات تتمثل في انحسار نطاق تأثير أغلبها، وضعف مواردها المالية، يمكن النظر إلى هذه التجربة على أنها مرحلة تدريب وتأهيل للسوريين يمكن الاستفادة من خبراتها في حال الانتقال إلى حكم ديمقراطي.
لكن وسائل الإعلام هذه يمكن أن تكون سيفًا ذا حدين، إذ من الممكن أن تلعب دورًا مهمًا في التمهيد لعملية تحول ديمقراطي من خلال رفع الوعي العام بمفاهيم الحرية والمسؤولية والتعددية واحترام الآخر، أما إن عجزت عن إثبات مهنيتها وقدرتها على التأثير الإيجابي، فهي بالتالي لن تكون بديلًا حقيقيًا لوسائل إعلام النظام الديكتاتوري، حتى وإن تم الانتقال السياسي.
انفجار حزبي خارج “الجبهة الوطنية التقدمية”
هيمن “حزب البعث الاشتراكي” على الحياة السياسية منذ وصول الرئيس حافظ الأسد إلى الحكم في سوريا، دون أن يكون هناك صوت للأحزاب الأخرى المندرجة في “الجبهة الوطنية التقدمية”، التي كانت تشارك في مسرحية “انفتاح الحياة السياسية والتنوع الحزبي”.
الثورة السورية فتحت الأفق السياسي المغلق منذ أربعة عقود، فبدأت بعض الأجسام السياسية تتشكل في استجابة لضرورة تنظيم الحراك الشعبي، وأخذت تدريجيًا بالتحول إلى أشكال أكثر ثباتًا وتنظيمًا، وبدأت الخريطة الحزبية السورية الجديدة بالتشكل.
يصل عدد الأحزاب السورية اليوم إلى ما يزيد على مئة حزب، ذات توجهات أيديولوجية أو قومية أو دينية مختلفة، وينشط عدد منها داخل سوريا، وفق قانون الأحزاب الذي أصدره النظام عقب الثورة، بهدف ترخيص بعض “أحزاب المعارضة الداخلية” مقابل “أحزاب المعارضة الخارجية”، التي سعى النظام إلى ترويجها على أساس أنها مرتبطة بأجندات إقليمية ودولية.
لكن التجربة الحزبية الجديدة لدى السوريين اتسمت بضعف الخبرة وعدم القدرة على طرح برامج تمكّنها من حصد جماهيرية ولو محدودة، ولم تشهد تلك الأحزاب حالات انتساب كثيرة من قبل الشعب السوري، بل اقتصرت في الغالب على مجموعات نخبوية صغيرة ذات مصالح وأهداف محددة.
ويرى الكثير من الباحثين السياسيين أن الأحزاب الجديدة لا يمكن التعويل عليها كبنية سياسية تنظيمة، لكن إعادة إحياء الحياة الحزبية يمكن أن تكون أداة في التحول الديمقراطي، كعملية قائمة على التعددية السياسية.
التحول الديمقراطي (تعريف)
هو الانتقال من النظام السلطوي إلى النظام الديمقراطي، أي إنه عملية تحول إلى نظام يأخذ بالتعددية السياسية، ويعترف بوجود معارضة للنظام الحاكم، ويضمن حرية الرأي والتعبير في قضايا وموضوعات لم يكن مسموحًا بمناقشتها من قبل، ويؤمن بالمشاركة الشعبية، بحيث يكون من حق المحكومين تغيير الحكومة بالطرق السلمية من خلال انتخابات دورية حرة ونزيهة، كما تقع عليهم مسؤولية الرقابة على من هم في السلطة، وفي المقابل يتمتع الحاكم بطاعة المحكومين.
كما يُعرّف التحول الديمقراطي على أنه عملية تهدف إلى إعادة النظر في خارطة القوة على مستوى النظام السياسي، والعمل على إعادة التوازن بين القوى الرسمية المتمثلة في الدولة والمؤسسات غير الرسمية متمثلة في منظمات المجتمع المدني.
“معارك” متعددة الجبهات من أجل الديمقراطية
يرتبط التحول الديمقراطي بجملة من الأساسيات لتطبيقه في البلدان التي لا تعيشه، وفي نفس الوقت تقف في وجهه الكثير من العقبات التي تتعلق بضبط آلية العملية، والتشبيك مع المؤسسات الرقابية والقضائية وغيرها، بما يضمن السير في الاتجاه الصحيح لتحقيقه.
وبالنظر إلى واقع الدول العربية، لم يتحقق التحول الديمقراطي في أي من القواعد التي يبنى عليها، ومنها سوريا، إذ أسيء لمصطلح الديمقراطية على المستوى المحلي والعربي، سياسيًا ودينيًا، وفق رؤية البعض، بدعوى أنها مفهوم غربي يرسخ الاستعمار، أو أنها دعوة للحكم “بغير ما أنزل الله”.
ويقول محمد العبد الله، المدير التنفيذي لـ “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، في حديثه لعنب بلدي، إن سوريا تشهد نوعًا من الانقسامات حول الموضوع في الوقت الراهن، فضمن مناطق سيطرة النظام تتوالى الشتائم للديمقراطية علنًا، “هم لا يؤمنون بالفكرة، أما في مناطق المعارضة فالوضع أكثر تطورًا، إلا أنه يبقى محدودًا”.
تاريخيًا، عاشت سوريا بعد الاستقلال من الانتداب الفرنسي، الديمقراطية بشكل جزئي، وكانت تلك الحقبة، وفق العبد الله، “غنية بتشكيل الأحزاب والتشكيلات السياسية، ونشاط طلابي وجامعي واضح، كما لعبت النقابات دورًا واضحًا في الحياة السياسية، وشاركت المرأة في العمل السياسي والحزبي والفكري، ما جعل من دمشق مكانًا لأنشطة واسعة”.
لم يدم الأمر طويلًا بعد وصول حزب البعث بقيادة حافظ الأسد إلى السلطة، وبحسب مدير المركز الحقوقي، فإن ذلك جعل فترة ممارسة الديمقراطية قصيرة إلى حد ما، ما منعها أن تكون جزءًا أساسيًا في حياة المواطنين اليومية، فلم يعتد السكان عليها.
واختلف التعامل مع مصطلح الديمقراطية واستخدامه السياسي بين عهد الأسد والوقت الراهن، ويرى العبد الله أن جميع الأنظمة العسكرية والديكتاتورية تصف نفسها بأوصاف “ديمقراطية وتقدمية وشعبية”، وأنها “ضد الإمبريالية ومعادية لها”.
ويوضح أن الديمقراطية لم تكن في أجندات حزب البعث ولا الأسرة الحاكمة، لكن الأخيرة لم تكن تشير إليها بشكل أساسي، ولا تعترف بأنها ضمن نظام عسكري وأمني، “لذلك غاب استخدام مصطلح الديمقراطية وشوهت وشيطنت فكرتها، على أنها أمر جلب من الغرب وألقي علينا ويستخدم بذرائع مختلفة”.
حاليًا، “استغلت الفصائل الإسلامية كلمة الديمقراطية ولعبت عليها لتخويف الشعب، وتصويرها على أنها شبح قادم من الغرب يسيء للدين والإسلام وليس من مجتمعنا بشيء”، وفق العبد الله، الذي يلفت إلى أن المجتمع السوري عاش تلك الفترات، قبل أن تأتي تلك الفصائل إلى سوريا.
ويعتبر مدير المركز أن فرص تطبيق الديمقراطية في سوريا “محدودة جدًا”، مردفًا “رغم بشاعة ما حصل من ناحية الضحايا والدمار في البلاد، إلا أن ما جرى سيجعل من المستحيل العودة إلى ما كان قبل عام 2011، فلن تقبل الناس العودة إلى ظروف العبودية والعائلة المالكة التي تحكم في جمهورية”.
ويصبح من الصعب إعادة فرض أي شيء على المواطنين، حتى عندما يحاول المجتمع الدولي ذلك من خلال سوتشي وجنيف وغيرها من المؤتمرات، بحسب العبد الله.
ويشير إلى أن المعركة الحالية من أجل الديمقراطية والحرية طويلة الأمد، “ليست فقط مع الحكومة السورية، بل مع الفصائل العسكرية التي تحاول فرض نفسها بالقوة، وتمنع المواطنين من ممارسة حرياتهم وحقوقهم”.
كما أنها “مع الأنظمة العربية المجاورة التي ترى الديمقراطية خطرًا عليها ومحفزًا ضدها، ومع الإرث الذي خلقته الحملات العسكرية للنظام وروسيا وإيران ضد الثورة”، بحسب العبد الله، الذي يعتقد رغم كل ما سبق “أننا في الطريق السليم”.
“دائمًا هناك فرصة للتحول الديمقراطي في سوريا أو أي بلد”، يقول الناشط السياسي السوري معتز مراد، معتبرًا أن تجربة الشعب السوري “عظيمة وكبيرة في حال أردنا الاستفادة منها ومراجعتها وتلافي الأخطاء التي حدثت ويجب علينا ذلك”.
ويرى أنه من الضروري أن ينفتح الشعب السوري على كل التجارب الناجحة، التي غيرت الواقع في دول عدة، “يجب أن تكون تلك التجارب بوصلة حتى لو كان الطريق طويلًا، فالنتائج ستكون كبيرة”.
سوريا والديمقراطية في الذكرى الثامنة للثورة
عاشت سوريا منذ ستينيات القرن الماضي أسوأ مراحل تاريخها السياسي، في ظل سلطة غاشمة استطاعت التغول على الدولة والاستيلاء عليها، ثم تحويلها من مجموعة من البنى الإدارية التي تعمل على تحقيق الأمن العام والصحة والسكينة العامة، إلى مجرد أدوات خادمة لمشروع السلطة المشخصنة، والتي تنصلت من كل ناظم لها سوى ما يراه الزعيم الملهم.
ومدت السلطة فوق ذلك يدها إلى المجتمع نفسه، فهمشت كل بناه التقليدية، التي كانت تشكل حدًا أدنى من الحماية والمظلة للفرد السوري، يحميه من بطش السلطة الذي لا ينظمه ولا يحده حد.
من هنا تأتي فرادة النموذج السلطوي في سوريا، الذي استطاع تسخير كل شيء من أجل خدمة هذه السلطة، وتحقيق ما تريده بغض النظر عن مصلحة المجموع.
ولذلك كان من المتعذر أن تتفهم السلطة أي مطلب للمواطن، أو تحاول أن تتفهم هذه المطالب، ما جعلها عاجزة بنيويًا عن أي إصلاح، لأن بنيتها لا يمكن أن تقبل ذلك فهي ترى المواطنين مجرد جماهير دورهم فقط السير على ما ترسمه من خيارات.
وغاب مصطلح الشعب كمفهوم سياسي حقوقي عن خطاب السلطة لصالح مصطلح الجماهير الدوغمائي، الذي يعني جمهرة ناس لا حقوق لهم بل عليهم واجبات فقط تتمثل بالخضوع التام والاستسلام الكامل لمشيئة السلطة، ممثلة بالزعيم الأوحد أو قائد المسيرة المطلق الصلاحيات.
وكنتيجة لانسداد الأفق أمام المواطن السوري، انطلقت الثورة السورية كتعبير عفوي احتجاجي على سلب الكرامة الإنسانية، فكانت ثورة كرامة دون أي بعد حقوقي أو سياسي يؤطرها أو ينظم حركتها العامة ويحدد ملامحها وأهدافها.
ومن هنا تأتي أهمية أن تتحول هذه الثورة من مجرد تعبير احتجاجي عن سلب الكرامة، إلى ثورة تنتج بالضرورة نظامًا سياسيًا قائمًا على فكرة المواطنة ببعدها الحقوقي الكامل، وقابلًا لإنتاج هوية وطنية متمحورة على الذات ومتطابقة موضوعيًا مع الكيانية السورية.
إن هذه الحقيقة تجعل من الثورة السورية الأكثر أصالة وجذرية خلال العصر الحديث، فهي عميقة جدًا سواء من ناحية الفئات الشعبية التي انخرطت بها وامتدادها الأفقي داخل المجتمع السوري، أو من ناحية القضايا التي لامستها والأسئلة الكبرى التي طرحتها ووضعت الجميع في مواجهتها، وهي أسئلة تتعلق بالهوية الوطنية وتحديد أطرها وتعريفها وبعدها الثقافي والحضاري والديني والإثني.
لقد هزت الثورة السورية بنيان المجتمع السوري بكامله، وأخرجت المسكوت عنه والمخبوء تحت قشرة واهية من التفاهمات الموهومة، وهذا ما يجعل الثورة من أعظم الثورات في التاريخ.
إن هدف أي ثورة ليس بناء بديل عن النظام السياسي الحاكم، وإنما تحطيم البنية السياسية والإدارية والقانونية للنظام السياسي، وبالتالي إطلاق الإرادة ورفع القيود عنها والسماح بخلق وسط جديد تتفاعل فيه إرادات حرة وتصوغ عقدًا اجتماعيًا وسياسيًا جديدًا يحدد أطر الاجتماع السياسي للسوريين، ويعيد إنتاج هويتهم الوطنية ودولتهم المنشودة، وفق أسس اجتماع مغايرة لما كان عليه الوضع الذي قامت الثورة أصلًا لتغييره.
الثورة السورية أنجزت ما عليها وحطمت النظام السياسي وألغته، وحاليًا لم يعد بشار الأسد وطغمته يمثلون نظام حكم أو أي شرعية سياسية أو قانونية، بل توصيف وجوده هو مجرد ميليشيا قوية تستحوذ على جزء من الإقليم السوري، وتمارس هيمنتها عليه بالمشاركة مع ميليشيات أخرى عابرة للحدود، جاءت من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان، وهو الأخطر بالمشاركة مع جيوش دولتين هما إيران وروسيا، إذًا نحن الآن أمام فرصة حقيقية لإعادة بناء وطننا ودولتنا واجتماعنا السياسي.
ما أخشاه هو فكرة الحل السياسي القائم على مشاركة بين ما يسمى النظام والمعارضة في الحكم، هذه التشاركية التي يلهث وراءها البعض هي نقيض حركة الثورة من ناحية، والسد الذي يمنع قيام تجربة ديمقراطية حقيقية في سوريا تؤدي لإعادة إنتاج الذات.
يجب أن يدرك الجميع أننا نعيش اليوم مرحلة ما بعد الثورة، أي مرحلة الفوضى التي تعقب كل الثورات، وبالتالي مسؤولية النخب والمواطنين السوريين تكمن في الذهاب مباشرة لإعادة تأسيس عقد اجتماعي جديد للسوريين، وليس خلق نظام حكم جديد ومشوه قائم على فكرة التشاركية بين المعارضة والنظام.
بناء الديمقراطية في سوريا يبدأ من لحظة وضع الأسس لخلق وسط سياسي وقانوني، يؤمّن البيئة الآمنة واللازمة والمحايدة لبناء النظام السياسي، وهذا ما عبر عنه بيان جنيف في المواد 7 و8 و9 منه، ويفترض ليس فقط إبعاد بشار الأسد وزمرته عن الحكم في سوريا، بل أكثر من ذلك اعتبار منظومة الحكم غير موجودة أصلًا من الناحية السياسية والقانونية، وبالتالي وجوب محاكمتها كأفراد وكمنظومة على الجرائم التي ارتكبوها.
لا يمكن أن تنشأ الديمقراطية إلا في مجتمع يسوده العدل والسلام الأهلي، هذا مضمونها وجوهرها القائم على التنافسية الحرة وتكافؤ الفرص، وهو أمر لا يمكن تصوره من دون عدل بالمعنى النسبي والمطلق، فيجب تجاوز إرثي الطغمة الحاكمة والمعارضة معًا، وهذا حقيقة جوهر بيان جنيف والذي ترفضه الطغمة الحاكمة وحلفاؤها ونتمسك به لهذا السبب.
ويجب التنويه إلى أن المعارضة أخطأت في تفسير البيان، عندما افترضت أنه يعني إنشاء هيئة حكم انتقالي مناصفة بين النظام والمعارضة، وهذا غير صحيح وليس في البيان، فالمادة التاسعة منه نصت على إنشاء هيئة حكم انتقالي تمارس جميع السلطات التنفيذية بالموافقة المتبادلة، وقالت في الفقرة التي تليها “ويمكن أن تضم أفرادًا من النظام أو المعارضة أو الأطراف الأخرى”، فمشاركة أفراد من النظام أو المعارضة جاء على سبيل الاستثناء والإمكان وليس الوجوب.
ومن الضروري التركيز على أن البيان ذكر النظام والمعارضة ليس بصفتهما كمؤسسات، وإنما قال أفرادًا، وهذا يعني أن المسموح به هو مشاركة أشخاص بصفتهم الفردية وليس بصفتهم المؤسسية.
محاولة الحل السياسي وفق ما يطرح الآن من جهات المعارضة وسواها، سيكون بمثابة الضربة القاصمة التي تمنع من بناء النظام الوطني الديمقراطي وهو الأمر الذي أتخوف منه.
مفاوضات التحول السياسي
محادثات أستانة
بدأت المحادثات مطلع عام 2017 بنسختها النسخة الأولى، في كانون الثاني، ورعتها روسيا وتركيا وإيران، تخصصت بمناطق “تخفيف التوتر” وملف المعتقلين دون التطرق إلى الانتقال السياسي.
وتكررت متوالية محادثات أستانة، لتعقد النسخة الثانية في شباط، ثم الثالثة التي لم تشارك فيها المعارضة في آذار، ثم انسحبت من محادثات النسخة الرابعة في أيار، وصولًا إلى “أستانة5” في تموز 2017، تلتها النسخة السادسة في أيلول، والنسختان السابعة والثامنة في كل من تشرين الثاني وكانون الأول.
مفاوضات جنيف
عقد مؤتمر “جنيف1” في حزيران 2012، وخرج بتوصيات مختلفة، على رأسها وضع نقاط العملية الانتقالية في سوريا، ثم جاءت النسخة الثانية في كانون الثاني 2014، وتلاها مؤتمرا موسكو الأول والثاني، عام 2015، ثم مؤتمرا فيينا الأول والثاني، نهاية العام نفسه، وصولًا إلى النسخة الثالثة من جنيف مطلع عام 2016.
النسخة الرابعة من جنيف عقدت في شباط 2017، وتلتها “جنيف5” في آذار، ثم جرت مفاوضات النسخة السادسة في أيار، وصولًا إلى آخر نسختين في تموز وتشرين الثاني.
وناقشت المفاوضات منذ النسخة الرابعة أربع سلال، الأولى تضمنت القضايا الخاصة بإنشاء حكم غير طائفي يضم الجميع، وبحثت الثانية القضايا المتعلقة بتحديد جدول زمني لمسودة دستور جديد.
في حين ناقشت الثالثة كل ما يتعلق بإجراء انتخابات “حرة ونزيهة” بعد وضع الدستور، ودرست الرابعة حلولًا استراتيجية لـ “مكافحة الإرهاب” وإجراءات بناء الثقة، دون تطور فعلي في مضمون أي سلة حتى اليوم.
مؤتمر سوتشي
عقد المؤتمر بدعوة من روسيا تحت اسم “الحوار الوطني السوري”، في 30 كانون الثاني 2018، واختتم بالاتفاق على تشكيل لجنة دستورية من ممثلي النظام السوري والمعارضة لإصلاح الدستور وفقًا لقرار مجلس الأمن الدولي “2254”.
كما نص البيان الختامي على “بناء مؤسسات أمنية ومخابرات تحفظ الأمن الوطني، وتخضع لسيادة القانون وتعمل وفقًا للدستور والقانون وتحترم حقوق الإنسان”.
وينتظر المبعوث الأممي إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، ضغطًا يمارس من الدول الضامنة في أستانة لتشكيل اللجنة حتى اليوم.
هل لا تزال هناك فرصة للتحول الديمقراطي في سوريا؟
أظهر استطلاع للرأي أجرته جريدة عنب بلدي عبر موقعها الإلكتروني وصفحتها على “فيس بوك”، عدم إيمان أغلب الجمهور بوجود فرصة للتحول الديمقراطي في سوريا.
وصوّت 57٪ من المشاركين في الاستطلاع، والذين وصل عددهم إلى 850، بـ “لا” على السؤال “برأيك: هل لا تزال هناك فرصة للتحول الديمقراطي في سوريا؟”.
فيما أجاب 25٪ من المستطلعة آراؤهم بـ “نعم”، وعبّر 15٪ عن عدم امتلاكهم رأيًا محددًا حيال الأمر.
وحظي الاستطلاع بتفاعل كبير على “فيس بوك”، وشرح عدد من القرّاء وجهات نظرهم فيما يخصّ “التحول الديمقراطي”.
أحمد غزال، علّق قائلًا “اي ديمقراطية؟ شعب في معظمه يركض وراء مصالحه وإشباع الأنا القاتلة، شعب يضرب الجهل أطنابه في كل مفاصل الحياة، أي ديمقراطية والقتل كشربة الماء عند الغالبية؟!”.
أما حسن الحسين فتساءل ساخرًا “ديمقراطية؟ عند القبائل والعشائر والطوائف والمذاهب السورية؟”، فيما قال يونس محمد اليونس “نعم. هناك تحول ديمغرافي” وليس ديمقراطيًا.
وعلّق إبراهيم حجازي “نحن شعب ديمقراطي حر ونزيه قبل مجيء حافظ الأسد، ولكن لا تهمنا الديمقراطية التي تبغونها إنما نريد أن نسقط من أذهب الديمقراطية من بلدنا”.
بعض المعلقين ممن أبدوا موالاة للنظام السوري من خلال تعليقاتهم، اعتبروا أن النظام هو الذي رعى الديمقراطية، وأن المعارضة هي من منعت تحقيقها في سوريا.
أسئلة حول فرص تطبيق الديقراطية في سوريا، يجيب عنها الناشط الحقوقي محمد العبد الله: