عنب بلدي – صبا الكاتب
في الحقيبة المعدة للجوء هربًا من الحرب، حمل السوريون أثمن ما لديهم وأخفه، بينما كانت سيدات يحملن توابل المطبخ التي لا يستطعن التخلي عنها.
ورغم ما حملته قضية اللجوء السوري، وهي أكبر قضية شغلت أوروبا خلال السنوات الماضية، من مشقة على الهاربين من جحيم الحرب، فإن بعض الجوانب الإيجابية لا يمكن إهمالها، كالتعرف على ثقافات جديدة والاستفادة من تجارب العالم المنفتح، وتعريف العالم بالمقابل بسوريا وثقافتها.
ما حملته هؤلاء النساء في حقائبهن، فاحت رائحته في أروقة المطابخ العالمية، وتناولت وسائل الإعلام أخبار استحواذها على موائد كبار المسؤولين والأمراء، وامتهنت بعض السيدات هذا المجال، رغم أنه لم يكن ببالهن في سوريا، سواء في الدراسة أو الحياة المهنية.
أسهم الطبخ السوري بدمج اللاجئين السوريين في المجتمعات الجديدة، كمطعم “مزة” الخيري في البرتغال.
افتتح المطعم في أيلول 2017، وتقول آلاء الحريري، الحاصلة على منحة ماجستير في الهندسة المعمارية في البرتغال وإحدى مؤسسي المشروع برفقة مجموعة من الأشخاص، إن المطعم خيري أنشئ بالتعاون مع جمعية “خبز بخبز” البرتغالية، وكفرصة عمل للاجئين العاملين به، في ظل أزمات اقتصادية وبطالة يعاني منها المجتمع المضيف، ما زالت آثارها تتجلى على البرتغاليين أنفسهم.
واستهدف المشروع أكثر الفئات المتضررة من الحرب، بحسب الحريري، وهي فئة الشباب و”ستات البيوت”، ممن لا يمتلكن خبرة في حياتهن أو شهادة جامعية في سجلهن، لكنهن يملكن رصيدًا في المجال الذي كن يعملن عليه بإتقان في بيوتهن.
أما الشباب الصغار الذين خرجوا من الحرب بلا حرفة أو علم، فوجدوا في المشروع فرصة متميزة لاكتساب اللغة والاندماج في المجتمع البرتغالي، إضافة لتعلم قسم منهم حرفة لحياتهم المستقبلية.
من الصفر إلى قمة النجاح
يعد مشروع المطعم خطوة نحو دمج اللاجئين، سواء مع ضيوفه ممن يقفون في طوابير الانتظار للدخول، أو العاملين فيه من البرتغاليين الذين يشكلون نسبة ضئيلة أمام الأغلبية السورية.
وأصبح مقصدًا لسياسيين أوروبيين، واعتبر رئيس الوزراء البرتغالي، أنطونيو كوستا، في زيارة إلى المطعم في 30 من كانون الثاني 2018، أن الفكرة “مثال للنجاح”، مؤكدًا أن الهدف من زيارته ليست فقط التأكيد على ضمان الحماية للاجئين فقط، بل إن “الناس يمكن أن يستأنفوا ويجدوا طريقتهم الخاصة بالحياة”.
وحصل المطعم البرتغالي على المركز الأول في مسابقة أجرتها السفارة الأمريكية في البرتغال “لأفضل مشروع”، في تموز 2017، وتلقى بالمقابل مبلغًا ماليًا أسهم في سداد ديون تمويله.
ولا بد لحاجز الصعوبات من التأثير على المشاريع الحديثة، إذ عصفت الأزمة المالية ببدايات تأسيس “مزة” وتسببت بتأخير افتتاحه، وكان حالها كحال صعوبات التواصل مع المجتمع الجديد ولغته إضافة لثقافته، فاللاجئون العاملون به لم يكونوا على علم بلغة البلد وأجوائه.
أما صيت المطعم الإيجابي فأثر بتغيير مواقف بعض المواطنين البرتغاليين، الذين زاروا المطعم رغم مواقفهم غير الموافقة على فكرة الهجرة واللجوء إلى بلدهم.
الغربة كربة.. فلنطبخ
تفاجأت كثير من النساء السوريات بكم هائل من الوقت لا تعلمن كيفية استغلاله على نحو مفيد، كحال “أم حامد” التي ذاع صيتها بين النساء السعوديات، إثر افتتاحها مطبخ “السفرة الشامية” منذ أكثر من ثلاث سنوات، وجدت به ما يسد فراغ الوقت الذي كانت تعانيه وأخمد كذلك نيران الفراق والغربة والحرمان من الأهل والجيران في سوريا.
وتقول”أم حامد” لعنب بلدي إنها توسعت في علاقاتها الخارجية مع المحيط السعودي، حتى أضحت تعتذر عن عدم تلبية كثير من الطلبات التي تأتيها.
“ملكة المطبخ” تكسر الصورة النمطية
وفي وقت تتشكل فيه صورة نمطية لدى الغرب تربط بين العرب المسلمين والإرهاب، كان للاجئين دور في استبدال هذه الصور، كحال سفيرة المطبخ السوري إلى برلين ملكة جزماتي، والتي عملت على ترسيخ صورة المرأة السورية الفاعلة والقادرة على الاندماج بسوق العمل، وعملت على إظهارها في وسائل الإعلام العالمية، وعززتها بوصولها إلى إدارة مطبخ مهرجان برلين السينمائي.
وجدت “ملكة المطبخ”، وهو لقبها عند معجبيها، في الطعام لغة مشتركة تجمع بين جميع شعوب العالم، في ظل عدم حاجة أمثال هذه المشاريع إلى رأس مال كبير، لكنها صدمت من استخفاف بعض الضيوف بكونها لاجئة سورية وصلت إلى أعلى درجات سلم النجاح، كأحد صحفيي مجلة “فوغ” الذي لم يكن متحمسًا كثيرًا لمحاضرة تعريفية بكتابها عن الطبخ، إلا أن المجلة أفردت بعد المقابلة معها ست صفحات للتعريف بجزماتي.
ولم تعمل جزماتي بشهاداتها في الأدب العربي أو العلاقات الدولية، بل آثرت الدخول في غمار الطبخ والخروج من نطاق مساعدات الدولة الاجتماعية الممنوحة للاجئين، لتصبح، وفق حديثها لعنب بلدي ، ندًا للألمان في دفع الضرائب المترتبة على العمل، وشددت أن على النسوة السوريات العمل بشكل مضاعف لإثبات الصورة الإيجابية.
وانضمت جزماتي لقافلة أكثر النساء المؤثرات في المجتمع الألماني ضمن متحف الثقافة الأوروبية الذي أقامته باحثة ألمانية للتعريف بأكثر النساء المؤثرات بالمجتمع الألماني، وزينت صورتها حائطه خلال فترة العرض الممتدة لثلاثة أشهر.
يتزاحم العمل حتى يحاصر أصحابه دون السماح لهم بنشاطات أخرى، فرغم تجاوز جزماتي السنتين من عيشها في برلين، لم تجد الوقت الكافي لتعلم لغة البلد أو حتى التجول والتعرف على أماكنه وثقافته وقوانينه، ما تسبب لها بمشاكل على الصعيد المالي، فغلطة صغيرة ناتجة عن عدم التعرف على قوانين العمل تكفي لانقلاب الدنيا على رأس المستثمر، الذي يعاني، على حد قولها، من بيروقراطية متغلغلة في معاملات أجهزة الدولة.
“أم حامد” وجزماتي وحريري هن نماذج للعشرات، من السوريات المبدعات حول العالم، وعلى اختلاف دوافعهن للعمل، أسهمن في نقل المطبخ والثقافة والصورة المشرقة للنساء والمجتمع السوري إلى بلاد الاغتراب.