عود على بدء.. هل من فرصة للمشروع الوطني؟
محمد رشدي شربجي
كانت الثورة السورية فرصة عظيمة ونادرة لإنقاذ بلد محكوم بالقمع منذ عقود من مصير التفكك والتشظي الذي ينتظره، فرصة لتشكيل مجتمع سياسي قادر على حل مشكلاته بحد أدنى من العنف، لم تنجح الثورة في ذلك للأسف، وتابع البلد مسيره نحو الهاوية، قد تشظى المجتمع السياسي والمحلي السوري لعقود مقبلة.
لم يعد خفيًا أن الوطنية السورية لم تكن مكتملة ولا ناضجة منذ نشأة الدولة السورية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، ولم يؤخذ أساسًا برأي مكونات هذا الكيان الوليد بشكل دولتهم المستقبلي، لم تكن ولاية حلب راضية عن القسمة الجديدة بعد أن خسرت منفذها البحري ومعظم أراضيها، ولم ير مسلمو لبنان في الحدود الجديدة إلا محاولة مكشوفة لتحويلهم لأقلية في كيان جديد. عدا عن سخط عربي عام بسبب تخلي بريطانيا عن وعدها للشريف حسين بإنشاء الدولة العربية الكبرى.
من أولئك الساخطين كان أيضًا الكرد، الذين حرمتهم الاتفاقيات الدولية من دولة خاصة بهم، ومنذ ذلك الحين يناضلون في أماكن وجودهم لإنشاء كيانات خاصة بهم. عشرات الثورات خلفت آلاف القتلى والجرحى والمعتقلين والعذابات والأحقاد انتهت في أغلبها بالفشل المرير.
لم تعجب تلك الحدود أحدًا إذًا، من المفارقات أنه قد نمت مع الزمن على جانبي الحدود أيدولوجيات تريد إلغاء هذه الحدود “المصطنعة” من جهة، والاستماتة بالدفاع عنها في آن معًا. ومع مرور الوقت وتشظي النضال وانتهاء الدول العربية جميعها إلى أنظمة عسكرية ديكتاتورية حكمت بالحديد والنار، ترسخت هذه الحدود وتجذرت في النفوس وعلى أرض الواقع على حد سواء.
كانت الثورة السورية محاولة لخلق اجتماع وطني متفق عليه ويمكن التداول بشأنه في المجال العام والخاص، اجتماع لا يفرض من أعلى ولا يتم المزاودة به ولا عليه، ولكنها كانت محاولة دخلها السوريون بلا أدوات ولا عدة ولا عتاد، كان الحلم والأمل كبيرًا حينها، لا يفوقهما حجمًا إلا حجم نكبتنا.
لم يرغب نظام الأسد بطبيعة الحال بهذا، بدأ على الفور -مستفيدًا من تجارب الربيع العربي- حرب إبادة على شعبه، وسرعان ما تحولت الثورة السلمية بدفع من الأسد وأنانية المعارضة لحرب طاحنة استفادت منها قوتان: السلفية الجهادية، وحزب العمال الكردستاني.
لم تكن معركة حزب العمال -على عكس السلفية الجهادية- يومًا ضد النظام السوري، وقد أظهر في أكثر من مرة ميلًا للتنسيق مع نظام الأسد ولو لم تكن الحاجة مقتضية لذلك، وكما فعلت السلفية الجهادية حين نقلت معركتها مع أمريكا إلى سوريا، كذلك فعل الحزب المذكور بنقل معركته الأزلية مع الدولة التركية إلى الأرض السورية.
لقد استطاع الحزب خلال فترة قصيرة من تسلمه المناطق الكردية بتنسيق مع النظام فرض نظام حكم، وبالرغم من ديكتاتوريته يبقى أفضل بما لا يقاس مع ما قدمه العرب في بقية سوريا، ولكنه بموازاة ذلك سعى عن قصد لوضع الجماهير الكردية في مواجهة الثورة بدل أن تكون في مواجهة النظام، ولم يتوان في سبيل تحقيق أهدافه من التعاون مع النظام وروسيا والولايات المتحدة، التي تلقى منها جميعًا دعمًا عسكريًا في وقت واحد.
كانت الحرب على الإرهاب فرصة عظيمة للحزب، كما لنظام الأسد، لبسط سيطرته على مناطق واسعة لا يشكل الكرد فيها أغلبية. ولم يستطع الحزب في نشوة الانتصار، التي أنسته لعنة الجغرافيا، أن يخفي رغبته بالتوجه غربًا إلى البحر المتوسط بحجة تطهير المنطقة من الإرهاب، كما استغل أكثر من مرة هجومًا دمويًا لروسيا على مناطق المعارضة للانقضاض عليها دون مبرر.
الحرب على الإرهاب أسوأ من الإرهاب نفسه، كما هو معلوم، ولم يراع الحزب ومن خلفه التحالف أي حرمة للمدنيين أثناء “تحريرهم” للرقة، التي أحالوها خرابًا بعد أن قتلوا من سكانها عدة آلاف من المدنيين.
عملية غصن الزيتون هي مسمار آخر في نعش الوطنية السورية المهترئة، وهي بطبيعة الحال لا تختلف في منطقها السخيف عن منطق الحرب على الإرهاب نفسها، الذي احترفه حزب العمال خلال السنوات السابقة، هي سلاح الحزب الذي قتل به هذه المرة.
لقد كانت الثورة السورية مقبرة لمشاريع كثيرة. انتهى مشروع سوريا الأسد إلى غير رجعة، وبعده مشروع الخلافة الإسلامية، واليوم ينتهي مشروع “روج آفا” قبل أن يبدأ، فكم من الدمار والمآسي سنعيش حتى نعطي الفرصة لمشروع وطني يعترف فيه الجميع بحق الجميع في الحياة والمشاركة، دون حاجة لأنهار من دماء؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :