تعا تفرج
عربانات من دون فرامات
خطيب بدلة
التحقيق الصحفي الذي نشره عبد الرزاق زقزوق، في صحيفة عنب بلدي، عن انتشار العربات الجوالة عشوائيًا في شوارع مدينة حلب، أعاد إلى ذاكرتي سلسلة من القصص والحكايات التي تتمحور حول العربة الجوالة التي يسمونها في بلاد الشام “العربية”، أو “العرباية” أو “العربانة”، وتكاد أن تكون مصدر الرزق الأساسي للعائلات الفقيرة، باعتبارها لا تحتاج إلى رأسمال كبير، إذ يكفي لصنعها بضعة ألواح خشبية يصنع منها صندوق خشبي ذو باب صغير من الخلف، وتُركّب لها عجلة صغيرة من الأمام واثنتان من الخلف، وفي الشتاء تُرفع لها أربعة جدران للأعلى، وتُسقف على نحو بدائي برقائق المشمع، لتقي صاحبها الذي يسمونه “العرَبانجي” من عوامل الطقس، كالمطر والثلج والرياح، وكان في إدلب قديمًا عربانجي يزين عربانته بصور لبعض الشخصيات الدينية التي يحبها.
تمنح العربانة صاحبها الفقير “المعثر” إمكانية اختيار السوق الذي يحتوي على زبائن أغنياء (مهبرين)، وأحيانًا يذهب إلى الحارات الشعبية المكتظة بالسكان، يساعده صغر حجم عربانته على الهرب من الدوريات المتنوعة التي تستغل الوضع غير القانوني للعربانات، إذ تضع العربانجي أمام خيارين: إما دفع الرشوة بفم ساكت، أو مصادرة العربة والرزق المحمل عليها.
أنتم، بلا شك، تذكرون المسرحية الرحبانية التي تحمل عنوان “الشخص”، وفيها تصادر الدورية “عربة بياعة البندورة”، وبعد المصادرة تغني فيروز لعربتها المصادرة: سوا ربينا، سوا مضينا ليالينا.. وتذكرون كيف زوّر التلفزيون السوري، فيما بعد، هذه الحكاية المسرحية، إذ أحدث برنامجًا بعنوان “سوا ربينا” يتحدث عن الأخوة بين الشعبين السوري واللبناني!
خلال إقامتي في مدينة إدلب ابتداء من سنة 1980، اعتدت أن أشتري ما يلزم لي من خضار وفواكه وألبان وقيمق وقريشة من سوق الخضار في الساحة الفوقانية، إلى أن جاء يوم نصحني فيه أحد أصدقائي بالشراء من الساحة التحتانية، وأكد لي أن الأسعار هناك أرخص، لأن معظم الباعة هم من أصحاب العربانات، وهؤلاء يرضون بقليل من الربح، لأن تكلفة بضاعتهم قليلة، فهم لا يدفعون أجار دكان، ولا فواتير ماء وكهربا وبلدية ومالية.. وهذا ما كان بالفعل، إذ تحولت إلى تلك الساحة، واكتشفت أن العربانجي يتمتع بميزة أخرى، وهي أن بضاعته طازجة، فهو يبيع ما يشتريه من سوق الهال في اليوم نفسه، وينصرف إلى داره.
روى لي بعض الأصدقاء حكاية جرت أحداثها في غابر الأيام، عندما رشح رجل “مسطول” نفسه لعضوية البرلمان، وكان ثمة شبان من هواة الضحك والمقالب، تقربوا منه وزعموا أنهم مؤيدوه، ونصحوه بأن يلقي على الجماهير الكادحة خطابًا ناريًا، ولأن معظم الكادحين يوجدون في الساحة، فقد أصعدوه فوق عربانة، وقالوا له تفضل اخطب، وبمجرد ما قال: أيها الإخوة المواطنون، أزالوا المتاريس الخشبية التي تسند عجلات العربانة، فدرجت، وذهبت شرقًا باتجاه ساحة المحريب، والمرشح فوقها يصيح: وقفوها يا شباب. كرمى للأنبيا والرسل وقفوها.
وفي اليوم التالي، عندما زاروه في المستشفى الوطني، قال حكمته الشهيرة:
– العيب الوحيد في هذه العربانات أنها من دون فرامات!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :