إبراهيم العلوش
يحتفل الشبيحة بقصف الغوطة، ويحتفلون بالاحتلال الإيراني من قبل، وبالاحتلال الروسي من بعد، ويحتفل ثوريو البي كي كي بالاحتلال الأمريكي، ويعتبرونه امتدادًا لرؤيتهم الماركسية، ويحتفل مشايخ أهل الشام بالقوات التركية، ويعتبرونها استمرارًا للدولة الإسلامية العثمانية.
ويحتفل مشايخ السلفية الجهادية بتنظيم القاعدة، بعدما خسروا تنظيم داعش، ويستمرون بالاحتفاء بعودته الأسطورية إلى مقابر السلف الصالح، واستخراج جثثهم وفتاواهم التي كانت ابنة عصرهم وابنة ظروفهم.
يحتفل اليسار العربي ببشار الأسد وبقواته العلمانية التي تنشر الطائفية التقدمية، وليس الطائفية السلفية التي ينادي بها اليمين العربي، ويعتبرون بشار الأسد لينين العصر الطائفي الجديد، ومسيح القرن الحادي والعشرين، الذي يضحي بكل سوريا من أجل نشر التقدم والاشتراكية التي أوصى بها الأب القائد، مؤسس هذا الخراب.
يحتفل لصوص الثورة بالأموال التي جنوها، وبالرحلات والفنادق التي يتنعمون بها، وبالعمالات الدولية التي ترضي غرورهم، وتنفخ كبرياءهم، وتطمئنهم إلى مستقبلهم السياسي المضمون من قبل وزارة الخارجية لهذه الدولة، أو وزارة الدفاع لتلك الدولة.
يحتفل لصوص المساعدات الذي يتخاطفون كرتونات الأغذية والأدوية، ويحولون محتوياتها الى الأسواق، ولا يهمهم إلا الأرباح، حتى ولو وصلت إلى الميليشيات الطائفية أو إلى داعش.
يحتفل رؤساء العشائر بشبكات العلاقات المتناقضة التي ينسجونها، فشيوخ الصف الأول مع النظام والأمن العسكري أو الجوي، وشيوخ الصف الثاني مع المعارضة، وشيوخ الصف الثالث مع مخابرات البلد الذي وصلوا اليه، وشيوخ الصف الرابع مع المشايخ والفتاوى الداعشية والقاعدية، ولا تعيبهم هذه الاختلافات التي تمدهم بالمال وبالسمعة الإعلامية الحسنة، وتطمئنهم على المستقبل السياسي، وحكم الركام الذي سيتبقى بعد كل هذا القصف.
يتأفف مثقفو النظام من قذائف الهاون، التي تأتيهم من جبل قاسيون، ومن فرقة ماهر الأسد، ويحولون غضبهم إلى بعد تقدمي وعلماني، يبيح إبادة الرجعيين، واليمنيين، والمتخلفين، والتخلص من وجودهم بأي ثمن، فالحواجز والسجون والتعذيب أمور صارت معتادة، أما قذائف الهاون التي تطلقها الفرقة الرابعة، والحرس الجمهوري، نيابة عن الإرهابيين، فهي الشر بعينه.
تحتفل مواقع التواصل الاجتماعي بصور الوجبات واحتفالات الميلاد والأعراس الفارهة التي يقيمها الشبيحة، ويقيمها الثوريون جنبًا الى جنب، مع نشر تلك الوسائط الاجتماعية صور الجوعى السوريين، وصور النساء السوريات اللواتي يتعرضن للابتزاز الجنسي من أجل كيلو رز وكيلو سكر وعلبة دواء.
يحتفل المشايخ بصور أردوغان ويعلنونه خليفة للمسلمين، ويحتفل البي كي كي بصور أوجلان ويعلنونه غيفارا الذي يحرر الكرد، ويحرر المرأة العربية، وينصر الأمريكيين في الرقة، ويحتفي بالميليشيات الإيرانية في عفرين.
يحتفل الموتى بخروجهم من المقابر، ليعلنوا إعادة الأحياء إلى التاريخ كمرجع يحرسه الموت والثبات الأبديين، وتجد الموتى يخرجون سواطيرهم ويذبحون الأحياء باسم الدين، والتاريخ، والسلف الصالح. وتجدهم ينصبون الحواجز ويعذبون الأحياء من أجل أن يحبوا القائد الراحل والخالد، ومن أجل أن يخلصوا لمبادئ القومية والطائفية التي تطهر سوريا من الحياة، وتحرمها من التجدد، ومن البحث عن سبيل آخر غير خطاباته، التي كانت تمتد ساعات طويلة، ولا نفهم منها شيئًا مع أو ضد، ولم نجن منها إلا التعذيب والتدمير والاحتلال الأجنبي.
هذه الثورة هزمتنا.. هزمت نظرياتنا العلمية، وهزمت خيالاتنا الأدبية، وهزمت قيمنا الأخلاقية، وأخرجتنا عراة أمام أنفسنا أولًا، وأمام العالم ثانيًا، فكل الدروس وكل الخطابات صارت مضحكة، وكل الإيديولوجيات، وكل الفتاوى صارت مجرد أكاذيب غايتها التبجح والتستر على العري.
هذه الثورة هبت علينا مثل عاصفة مطرية، وحولتنا إلى طين بعدما كنا نتوهم بأننا صخور صلبة، وشتتنا بعدما كنا نظن بأننا سنوحد الأمتين العربية والإسلامية، وربما نوحد المريخ مع المشتري، كما كانت تردد المنطلقات النظرية طوال خمسين سنة.
هذه الثورة حطمت كل ما بنيناه من أساطير حول أنفسنا وحول قيمنا، وحول تاريخنا المجيد، وحول مستقبلنا المبني على الزعامات التاريخية، والمراجع السلفية، ونظريات المؤامرة، وحول عبقريتنا التي يتقاتل العالم من أجل الاستحواذ عليها.
هذه الثورة هزمتنا.. هزمنا أطفالها الذين تجرأوا على الظلم في درعا.. هزمتنا المسيرات والأغنيات التي بدأها الناس في الساحات العامة، وهم ينشدون الحرية ويطالبوننا بالتوقف عن قبول الظلم والتعذيب.. ولم نخلص لهم ولا لحلمهم.
هزمنا الشهداء الذين أودعوا في مخيلاتنا ابتساماتهم الأخيرة.. هزمتنا النساء الصابرات على الترميل، وعلى الابتزاز، وعلى انتظار المعتقلين والمخطوفين.. ونحن لا نملك غير الكلام والوعود الجوفاء، ولا نستطيع أن نجتمع بغير شتائم، وبغير تخوين، وبغير تكفير.
هذه الثورة ما تزال ماضية في مطاردتنا، تطلق عواصفها، وأمطارها، وتمزق ما يسترنا من أسمال مهترئة لبسناها في عصر المخابرات، وفي عصر الأيديولوجيات والطوائف التي تنتفخ مثل أورام معدية.
هذه الثورة هزمتنا..
ورود غياث مطر ما تزال تتلألأ في وجوهنا، نحن الذين تبددنا مثل ذرات رمل، وطمرنا جمال الورود التي زينت ساحات التظاهر في حماة.
هذه الثورة هزمتنا.. فحلمها ما يزال مهيمنًا على مخيلاتنا، ولا نستطيع استئصاله، ولم نعد قادرين على العودة إلى عصر المخابرات والمنطلقات النظرية، ولكننا ما نزال عاجزين أمام تحقيق حلم هذه الثورة العنيفة والعاصفة التي تمزق كل ما بنيناه من أوهام.