حذام زهور عدي
يتوجه الإعلام الإقليمي والمحلي والعالمي لنقل التصريحات الدولية المتتالية حول الملف السوري، ويجهد المحللون من كتّاب ونجوم تلفزة بتفصيلها واستنباط مدلولاتها ورصد ما طرأ عليها من تغير، يبشر تارة بقرب انتهاء الوضع السوري إيجابًا لصالح تحقق بعض أهداف الثورة، بدعوى الظروف غير الملائمة لتحقيقها كاملة، أو سلبًا باستمرار النظام الأسدي ووضع مساحيق الكلام التجميلي لهزيمتها.
وبالرغم من أهمية تصريحات محتلي سوريا، الروس والإيرانيين، يتوجه الاهتمام إلى التصريحات الغربية وزعيمتها الأمريكية، ليس لأنها بوصلة الوضع الراهن فقط، ولكن لأنها الأكثر زئبقة، بحيث يصعد خطها البياني ويهبط في اليوم الواحد أكثر من مرة، تتبعها الدول الأوروبية واتحادها بحكم الضرورة، سواء أكان ساستهم مقتنعين بها أم غير مقتنعين، وفي الحالة الثانية يكتفي دبلوماسيوهم بتشديد مفردات الاستنكار والإدانة التي توحي بأنه لولا موقف الولايات المتحدة السلبي لكانت المأساة وجدت لها حلًا منذ سنوات أربع.
كما يبدو اختارت الحكومة العالمية سوريا لترتيب النظام العالمي الجديد بعد أن انتهت صلاحية نظام ما بعد الحروب العالمية الأولى والثانية، فقد اقتحمت قوى جديدة ذلك النظام وأصابته بزلزال جعلت تغييره ضرورة قصوى لإعادة تنظيم مصالحها، التي أصبحت تستند على معطيات جديدة، أهمها رغبة تلك القوى برفض نظام القطب الواحد والتوجه الحاسم لنظام تعددية الأقطاب، وهي في معركتها تلك تتجاوز كل ما اتُفق عليه سابقًا من قوانين حقوق الإنسان والحرص على السلام العالمي من خلال الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهكذا كان لا بد أن تسود الفوضى وتتحول الأمم المتحدة ومجلسها إلى مؤسسة شكلانية تساهم واقعيًا بتلك الفوضى بدلًا من أن تعمل على تنظيمها وفق المبادئ التي سببت ولادتها.
وكما كان المتغير الأول، الذي ظهر واضحًا على الأرض السورية، نشوء تلك القوى وتحويل هيئات الأمم المتحدة إلى مسارح لتمثيلياتهم الهزلية، فقد جاءت الأزمات الاقتصادية -نتيجة انسداد الحلول الرأسمالية لمشاكل التطوروالتنمية- لتكون عتلة تلك المتغيرات، والتي أصابت ما كان يقال عنه “المحور الحر” بجروح بليغة، جعلت اهتمام زعيمته الأمريكية بالشرق الأوسط يتراجع تارة حتى تبدو كأنها فقدت تأثيرها فيه، وحينًا آخر تقتحم المشهد باندفاع من يريد أن يُثبت أنه لا يزال هو الأقوى وهو القائد الأهم أو الأوحد لهذا العالم المأزوم، واضعة حلفاءها التاريخيين خلفها، دون أن تتنبه إلى أن إضعاف الدور الأوروبي هو إضعاف لقيادتها وإفساح المجال لأعدائها التاريخيين بإشغال الفراغ الذي ينتج عن ذلك الإضعاف، لكن الدول الأوروبية الأكثر تضررًا من هذه الإزاحة، تحاول جاهدة التسلل عبر الفُرج الصغيرة التي تنفرج بين الحين والآخر في فوضى النزاعات القطبية.
ذلك هو المشهد العالمي الذي يقبع خلف ما يحدث في سوريا، متمظهرًا بتصريحات وإعلانات متناقضة حينًا وغامضة حينًا آخر، يعلو صوتها إعلاميًا لدرجة يظن السامع بأن هناك الجديد المؤثر ويخفت في الوقائع حتى يظن بأن لا شيء جديد وأن المراوحة بالمكان هي سيدة المواقف.
كيف يمكن لمتابع يلتقط تصريحات رسمية وغير رسمية صحفية ومنقولة عن دوائر البرلمانات أو مراكز الأبحاث، أن يستنتج منها وجود استراتيجية أمريكية وأوروبية واضحة لحل” المسألة” السورية؟ إنه يرى موافقة تلك الدول على قرارٍ حمال أوجه لا يُلزم مجرمي الحرب بإيقاف بربريتهم، ولا يحاسبهم على جرائمهم، ولايفرض عليهم حتى الجلوس بمفاوضات أرادتها تلك الدول وقررتها ووقعت جميعًا عليها.
كيف يمكن لمتابع أن يستنتج تحضير المحور الغربي لحملة تأديبٍ للنظام الأسدي وحلفائه؟ إنه يرى الإبادة الممنهجة للغوطة وغيرها من المدن السورية دون تهديد جدي واحد يوقف تلك المأساة الإنسانية لأيام معدودة.
بل كيف يرى تساقط الأطفال بالغازات الكيماوية، وهو يسمع الأمريكي ذي الخطوط الحمر أو ترامب المتنمر أو الفرنسي الذي تعهد وحده بالهجوم على من يستخدم الكيماوي مرة أخرى، وهم يلحسون تصريحاتهم وتعهداتهم بتبرير أسوأ من تجاهلهم للوقائع؟
كيف يمكن فهم تلك المواقف بأنها متغيرات لصالح إيقاف المقتلة السورية؟
كيف يمكن أن يقتنع السوري بأن في الأفق حلًا شبه عادل يعمل عليه “العالم الحر”، وهو يعيش لحظاته كلها بانهيار إنساني مريع؟ وكيف يُقنعه القول إن ضربة حميميم وقصف الرتل الروسي في دير الزور ليست رسائل سياسية لا يقصد منها أكثر من إعلام بوجود الأمريكيين بالساحة حتى لا يطمع الروس وحلفاؤهم بقضم الحصة التي استولت قائدة العالم الحر عليها؟
وكيف لا يتساءل السوري عن وجود القوة الجبارة على بعد كيلومترات قليلة من الكيماوي وأسلحة بوتين الحديثة دون أن تحرك ساكنًا، وكأن ما يجري في طول سوريا وعرضها لا يهمها وليست لها علاقة به، ثم يقبل التخدير بتصريحات وكلام لا يطعم جائعًا ولا يُنقذ طفلًا من براثن التوحش المعمم؟
أجل هناك متغيرات دولية لكن ليست من أجل أي حلٍ للمعضلة السورية، إنما من أجل تبلور نظام تعددية الأقطاب، والعودة لقوانين الغاب، والحرص على استغلال ونهب ثروات الضعفاء.
ستكون على حساب الدماء السورية، يتلاعبون فيها ويسهرون على مسلسل مآسيها، ويُبطنون البطاقة البيضاء التي يسربونها لمجرمي القرن الواحد والعشرين بأنهم غير مبالين إلا بمصالحهم الخاصة جدًا، محذرين الآخرين من المس بها.
أما الشعب السوري فقد فهم تمامًا بأن تلك المتغيرات لن تصيبه بخير بل هي الوبال الأكبر عليه وليس له بعد الله إلا وحدته وتصميمه وإرادته بالحياة الحرة الكريمة، أجل الشعب السوري سيصنع من دمائه النظام العالمي الإنساني العادل، ويعيد اختراع الأبجدية الإنسانية، وسينتصر.