عنب بلدي – العدد 139 – الأحد 19/10/2014
ياسر نديم سعيد
ماهو موقف “المثقفين العلويين” من الثورة في سوريا؟
هل كان من الممكن طرح هذا السؤال قبل الثورة السورية، وهل كان يمكن استخدام تعبير “المثقف العلوي”، ماذا حدث إذن حتى صار التعبير والسؤال مألوفين ومتداولين؟
إنها مفاجأة من العيار الثقيل، فمع اندلاع الثورة السورية انخفض عدد المثقفين العلويين الذين يقولون الحقيقة بدافع المعرفة والخبرة، إلى أدنى مستوى له منذ خمسين عامًا، إذا نحيّنا جانبًا العدد الضخم منهم ممن تطوعوا مع السلطة السياسية قلبًا وقالبًا في مناهضة الثورة.
لم يكن الحال هكذا في الثمانينيات مثلًا، بل كان هناك تباهٍ بعدد المثقفين العلويين المنخرطين في المعارضة السياسية للسطلة (المعارضة اليسارية والقومية بطبيعة الحال وليست الإسلامية)، فما الذي حدث؟
لقد مسّت الثورة السورية أساس تشكل نظام الأسد اجتماعيًا وسياسيًا، وطالبت بنسف هذا الأساس الاجتماعي السياسي من جذوره.
وأبرزت الثورة إلى السطح سوريا المسلمة نفسها، التي طالما جرى تغييبها خلال نصف قرن، قبل أن يظهر الإسلام السياسي في واجهة الثورة.
لقد عرف النظام البعثي ومن ثم الأسدي دائمًا كيف يحارب المجتمع المسلم تحت غطاء حربه للإسلام السياسي، حيث نجح دائمًا في تضخيم هذا الأخير وشيطنته، حتى ظن نفسه وظنه الآخرون أيضًا، عملاقًا فعلًا.
خاف هذا المثقف العلويّ من المجتمع المسلم الثائر نفسه، قبل خوفه من الإسلام السياسي، (وفي الواقع خاف الليبراليون والعلمانيون واليساريون المسلمون من مجتمعهم نفسه أيضًا)، وشعر تجاهه بالقلق فهو ليس مجتمعه وليس مجاله الحيوي؛ إذ تعوّد هذا المثقف النشاط في أوساط ليبرالية وعلمانية مدنيّة وبأفكار يسارية وقومية وليس بأفكار إسلامية في أوساط مسلمة.
ولم يعرف المثقف هؤلاء الفقراء والمهمَّشين الثائرين في الأرياف والأحياء الشعبية في المدن، لأن الفقراء العلويين مختلفون عنهم كثيرًا في نمط حياتهم المعيشية ونمط تفكيرهم وكيفية تحصيل رزقهم وأماكن سكنهم.
لذا لزمت معظم الرموز الثقافية العلوية، الأكثر شهرة في الفضاء العام، الصمت تجاه الثورة، أو انتقدت الثورة نفسها في الصميم وناهضتها، أو وقفت مع النظام بوضوح، لتجرّ وراءها معظم المثقفين العلويين الآخرين.
إن أساس الوعي الممزّق لهؤلاء المثقفين يكمن في مكان آخر أيضًا، في بيئتهم نفسها في أهلهم وعائلاتهم ومعارفهم وقراهم وأحيائهم، حيث يتواجد الشبّيحة والمخابرات وجيش الدفاع الوطني بأعداد كبيرة، وفي مجتمعهم الصغير نفسه الذي وقف خارج الثورة تمامًا وضدها، والذي لا يرفض تقديم شبابه دائمًا للسلطة السياسية من أجل الحرب ضد مجتمعات الثورة.
الوعي الممزّق هو الوعي بالازدواجية والتناقض، وهو الوعي المنقسم على نفسه بين ما تؤمن به الذات وبين إكراهات الواقع.
وقد واجه هؤلاء المثقفون قلقهم تجاه الثورة وعدم انخراطهم فيها بعدة آليات دفاع نفسية منها: إسقاط أفكارهم ومشاعرهم على الآخرين كـ “الطائفيون هم الآخرون”، ومنها إنكار وجود حوادث وقعت فعلًا (المجازر الطائفية مثلًا)، ومنها رؤية الأشياء إما جيدة كلها أو سيئة كلها “الجيش العربي السوري المقدّس والجيش الحرّ المندس”، ومنها عزل العاطفة وغياب صرخات الضمير، واستبدالها بعمليات عقلية مبالغ بها كـ “ادعاء الموضوعية وعدم الانحياز”، ومنها البحث الدائم عن تبريرات لمواقفهم وسلوكهم.
كما أن سلوك الأسد خلال الثورة، المتمثل بالعنف وعدم التردد منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية في مواجهة مجتمعات الثورة بالرصاص والقذائف الحية، فاجأ الجميع بمن فيهم هؤلاء المثقفون.
وبدأ التفكير بهذا النظام يأخذ منحى جديدًا: هل كنا فعلًا ندرك ماهية النظام، وهل كنا فعلًا ندرك أنفسنا وموقفنا منه كمثقفين أو كمعارضين محتملين أو فعليين؟
في حين فاجأت الثورة هؤلاء المثقفين فبدؤوا بالتفكير أيضًا، هل هذه هي الثورة التي كنا نتصورها في خيالنا، وهل لنا مكان فيها…؟