دور السينما في سوريا دون زوار
عنب بلدي – حلا إبراهيم
“الذهاب إلى السينما هو أشبه بالعودة إلى الرحم، فأنت تجلس هناك ساكنًا، متأملاً في الظلام، تنتظر الحياة لتظهر على الشاشة”، هكذا وصف المخرج العالمي فيديريكو فيلليني، فكرة الذهاب إلى صالة السينما، وشبهها بأنها شيء يشبه البحث عن الكنز.
لم يكن هاجس رؤية انعكاس الحياة يقتصر على شعوب دون أخرى، فانتقلت فكرة السينما من دول الغرب إلى العالم العربي منذ نهايات الدولة العثمانية، ورغم الازدهار الذي حظيت به هذه الصنعة في سوريا تراجعت اليوم إلى أن فقدت دور السينما زوارها.
كانت سوريا من أوائل الدول العربية التي عرفت السينما قبل أن تكون ناطقة، فكان أول فيلم سوري صامت بعنوان “المتهم البريء” عام 1928، أنتجه مجموعة من محبي السينما، أسسوا أول شركة إنتاج سينمائي تحت اسم “حرمون” وكان العرض في صالة سينما “أمية” في حي “البحصة” وسط دمشق.
يروي الفيلم أحداثًا حقيقية إبان حكم الملك فيصل لسوريا عام 1920، عن لصوص قاموا بترويع الناس في ضواحي دمشق، ولقي الفيلم إقبالاً جماهيريًا كبيرًا وقتها.
تلاه فيلم “تحت سماء دمشق” عام 1931، للمخرج إسماعيل أنزور، وبعد عدة تجارب اتسمت بالنجاح مع السينما الصامتة دخلت السينما الناطقة إلى سوق الإنتاج، على يد نزيه الشهبندر، الذي أخرج وأنتج أول فيلم سوري ناطق بعنوان “نور وظلام” عام 1947، من بطولة المطرب السوري رفيق شكري واللبنانية إيفيت فغالي، وهي شقيقة الفنانة صباح.
ولكن وجود صالات السينما سبق الإنتاج السينمائي في سوريا، وكانت حلب على وجه الخصوص أول مدينة سورية أنشئت فيها صالة سينما عام 1908، عن طريق أشخاص أتراك، ثم لحقتها دمشق إذ عرض حبيب شماس عام 1912 أفلام صور متحركة في مقهى “زهرة دمشق” في المرجة، وكانت آلة العرض تدار يدويًا وتعمل الإضاءة بغاز الإستيلين.
إلى أن افتتح جمال باشا (المعروف بالسفاح) أول صالة سينما حديثة في سوريا اسمها “جناق قلعة” في دمشق عام 1918، تيمنًا بالمعركة الشهيرة التي انتصر فيها الجيش العثماني على البريطانيين، ولكنها لم تستمر بعد نشوب حريق ضخم فيها، وأنشئ على أنقاضها مبنى “البرلمان” في حي الصالحية.
تركزت صالات السينما في دمشق بمركز المدينة، من ساحة المرجة بتفرعاته من شارع رامي، البحصة، شارع البريد، باتجاه شارع بغداد.
“سيران” السينما واندثاره
يروي الإعلامي السوري عبد المعين عبد المجيد لعنب بلدي قصته عندما دخل صالة السينما لأول مرة، و كان ذلك في منتصف الستينيات، إذ بلغت العروض السينمائية ازدهارًا ملحوظًا، لم يقتصر على العاصمة دمشق، بل تجاوزها إلى أبعد المحافظات عنها وهي دير الزور، ويقول عبد المجيد “كان عمري حوالي ثماني سنوات عندما دخلت السينما في منطقة الميادين (التابعة لمحافظة دير الزور شرقي سوريا)، وكانت السينما صيفية (مكشوفة) بسبب عدم وجود مبردات هواء في تلك الفترة، والذي شدنا أنا وأصدقائي لدخولها هو الصور التي كانت تعرضها إعلانات الأفلام، وصور النجوم، وأضحت عادة أن ندخل السينما شهريًا مع الأصدقاء والأقارب، حتى أصبحت لدينا شغفًا”.
ويصف هذه الصالات المكشوفة بكونها تحوي مقصورات عائلية، يتناول فيها الحضور الأكلات المحضرة مسبقًا في المنازل، ويشربون الشاي والقهوة أثناء عرض الفيلم، في جو أشبه بـ “السيران”.
أما في حمص فكانت العائلات تذهب أسبوعيًا إلى السينما فيما يدعونه “السهرة”، إذ كانت صالات السينما هناك تحظى بشعبية، ويذكر الكاتب السوري مالك داغستاني سهرات العائلة في حمص عندما كانت تصطحبه والدته وخالته إلى السينما، ويقول “كان الناس معتادين على الذهاب إلى السينما ويجدون فيها ما يمتعهم، طوال فترة السبعينيات، إلى أن بدأ كل شيء بالتدهور بما فيه السينما”.
عن هذه الفترة يشرح داغستاني سبب تدهور السينما، ويقول لعنب بلدي “انقطعت عن زيارة السينما نهاية السبعينيات ولم أكن الوحيد، إذ أصبحت صالاتها مرتعًا لـ(الزعران) مما منع العائلات عن ارتيادها، كما توقف استيراد الأفلام فأغلقت معظم صالات السينما في حمص، ولم يبق سوى اثنتين”.
لم تكن دمشق أفضل حظًا من المدن السورية الأخرى، إذ اعتادت العائلات الدمشقية ارتياد السينما في سهرات الخميس، فترتدي النساء والأطفال أجمل الملابس وكأنهم في يوم عيد، وبقيت هذه العادات إلى أن انتشر التلفاز في المنازل، وكان ذلك نهاية الستينيات.
عاش الإعلامي عبد المعين عبد المجيد منذ بداية شبابه في دمشق، وانتقل نشاطه الثقافي إليها، ولكنه لم ينتظر طويلاً حتى توقف عن حضور الأفلام في صالات السينما في دمشق، التي أصابها مثلما أصاب غيرها من تدهور، وبرأي عبد المجيد يعود ذلك لغلاء أسعار العقارات التي أنشئت عليها الصالات، كما سبب انتشار التلفاز وبث أفلام جيدة عليه عزوف الناس عن الذهاب إلى السينما، وكان لازدياد الضرائب على الأفلام المشتراة بالنسبة لمالكي الصالات أثره، كل هذه العوامل وغيرها أسهمت في تراجع “صنعة” عارضي الأفلام، “فأصبحت مكانًا لا يقصده إلا من ليس له مكان آخر يأويه”، ليأخذ قسطًا من النوم، مستغلًا وجود التدفئة.
الذهاب إلى السينما “عيب”
“عندما جاوبت والدتي على سؤالها (وين كنت) أنني كنت مع صديقي في السينما، وبّختني وهددتني بإنزال غضبها علي إن أعدتها مرة أخرى”، هذا ما حصل مع فادي، شاب سوري مقيم في دولة خليجية، ولكن ما لم تعرفه والدته، برأيه، أن صالات السينما في البلد الذي يقيم فيه تختلف عنها في سوريا، مؤكدًا أنه لم يفكر ولو لمرة واحدة بالدخول إلى السينما عندما كان في سوريا، لما تحمله من سمعة سيئة.
وهذا ما أكدته لينا، التي ذهبت أيام دراستها الجامعية برفقة أصدقائها إلى “سينما الشام” وهي معروفة أنها أرقى صالة في ذلك الوقت، ولكنها لقيت نفس مصير فادي عندما جربت أن تحكي لأهلها عن الفيلم الذي شاهدته، وتقول عن ذلك الموقف “الذي شفع لي أمام أهلي جهلي عن السمعة السيئة لصالات السينما، ولم أكررها قط، رغم افتتاح صالة أخرى فخمة في دمشق، لكني فضلت عدم الذهاب”.
وعن الصالة الجديدة “سينما سيتي” التي تتوسط شارع جسر فيكتوريا في دمشق، أسفل فندق “سميراميس” يقول فؤاد “لم أرتد في حياتي السينما بسبب ما أسمعه عنها من كلمات سيئة، ولكن عندما سمعنا عن افتتاح صالة بمواصفات راقية، تشبه تلك الموجودة في لبنان وبلدان أخرى مجاورة، فكرنا بالذهاب أنا وأصدقائي، ولكنا فوجئنا بسعر بطاقة الدخول، إذ كانت حوالي 500 ليرة، أي ما يعادل عشرة دولارات في ذلك الوقت، وهذا مبلغ من الصعب أن يتوفر مع طلاب جامعة، إذ لن يقتصر الأمر على بطاقة الدخول، فكل شيء سعره مرتفع من مشاريب ومقبلات وهذا يزيد عن قدرتنا”.
لا يُعرف إلى متى ستستمر هذه المحنة السينمائية في سوريا، ورغم سعي رسمي إلى إظهار “قوة” الصنعة في سوريا من خلال عرض أفلام من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بكثرة في الآونة الأخيرة، يصفها الإعلام الرسمي أنها “أضخم الإنتاجات”، لا يمكن مقارنتها مع ما قدمته المؤسسة من أعمال ناجحة، مثل أفلام المخرج عبد اللطيف عبد الحميد، وأفلام المخرج نبيل المالح وكان أهمها فيلم “الفهد” الذي نجح نجاحًا جماهيريًا كبيرًا وقت عرضه، وشكل علامة فارقة في السينما السورية برأي كثير من النقاد.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :