فريق التحقيقات في عنب بلدي
لم تكن الكيلومترات القليلة التي تفصل بين دمشق وغوطتها الشرقية، كفيلة بإيصال صرخات أكثر من 350 ألف مدني محاصرين منذ سنوات، إلى مسامع معظم سكان العاصمة، والذي وجد النظام في قذائف تتساقط عليهم وسيلة للعمل على تعزيز شرخ اجتماعي بين ضفتي دمشق.
منذ اليوم الأول للعمليات العسكرية التي قادها النظام السوري في الغوطة، لم تخلُ مواقع التواصل الاجتماعي من صور ومقاطع فيديو، أظهرت مشهدًا لا يخفي حجم الكارثة التي ألمت بتلك البقعة الجغرافية، قابلهتا روايات وتسجيلات مضادة روجت لها وسائل الإعلام الرسمية والموالية، سعيًا لشرعنة حملتيه، البرية والجوية، في إطار تقديم صورة لخطاب سكان العاصمة بطريقة تخدم أجنداته، تحت شعار “الحسم لتخليص دمشق من الإرهابيين”.
استطلاعات رأي وتسجيلات مصورة ومراسلون على الأرض، إضافة إلى شبكات إعلامية مختلفة، جميعها جيرت الأحداث لمصلحة النظام، الذي استغل في هذا التوجه أوضاع بعض أهالي دمشق المتضررين من القذائف، إضافة إلى الترويج لمشاركة بعض أبناء العاصمة في اقتحام الغوطة، فحساسية الموقع والتركيبة السكانية لدمشق وريفها، تتطلب زخمًا إعلاميًا رسميًا وغير رسمي، لتحقيق جزء من “النصر”، فضلًا عن العمليات العسكرية على الأرض.
قذائف دمشق تطغى على ضحايا الغوطة
تكرر مصطلح “الحسم” على ألسنة مجموعة من النساء، قابلهن مراسل “الإخبارية السورية”، باعتبارهن قريبات مصابين بالقذائف، وأظهر تسجيل مصور بثته القناة، 23 من شباط الماضي، ثلاث نساء قالت إحداهن وهي تقف إلى جانب طفل مصاب، “الله لا يسامحهم لازم الجيش والرئيس يمحيهم حاجة بيكفي”، ما اعتبره إعلاميون توجهًا مجهزًا له في وقت سابق لدعم الرواية الرسمية.
وظهر في التسجيل نفسه، امرأتان طالبتا بإيقاف الهدنة والاستمرار بالعمليات العسكرية حتى “إنهاء المسلحين”، وكررتا عبارة “لازم يكون الأمر يا قاتل يا مقتول، ما حدا عم يفهم علينا ولا حتى الأمم المتحدة، نحن اللي رايحة علينا والغرب كله مأمن”، في ظرف استغلته وسائل الإعلام الرسمية، التي تحدثت إلى متضررين في أثناء الصدمة.
وتتبادل الفصائل في الغوطة والنظام السوري الاتهامات منذ سنوات، حول المسؤول عن قصف العاصمة بالقذائف، التي راح ضحيتها العشرات من المدنيين، بينما استغل النظام الأمر مظهرًا الوضع في دمشق بأنه “مأساوي”، متجاهلًا مقتل أكثر من 560 مدنيًا، إثر قصفه مدن وبلدات الغوطة خلال ثمانية أيام فقط.
وفي تطور لافت خلال الحملة الأخيرة، قتل شخصان على الأقل وجرح آخرون، في قصف استهدف منطقة “ركن الدين” وسط دمشق، قالت وسائل إعلام النظام وأخرى محلية، إنه نتج عن قذيفة صاروخية مصدرها الغوطة الشرقية، بينما نُشرت لقاءات مصورة تحدث فيها البعض عن صاروخ طائرة استهدف “بالخطأ” المنطقة للمرة الأولى، تسبب بأضرار مادية جسيمة.
الرواية الرسمية حول عملية الغوطة الشرقية، دعمتها وسائل إعلام موالية بلقاءات مصورة، بث أحدها “الدفاع الوطني”، في شباط الماضي، وركز على ثلاثة مقاتلين أحدهم من دمشق والآخر من المنطقة الشرقية، بينما ينحدر الثالث من الغوطة، كما أظهرت لهجته.
وبرر المقاتلون العمليات العسكرية ومشاركتهم فيها، بأنها تأتي “لرفع الظلم عن أهالي دمشق وتخليصهم من القذائف”.
الإعلام الرسمي راح إلى أبعد مما سبق، فاستخدم مشاهد من تسجيل مصور عن ورشة “مكياج سينمائي” في مدينة غزة بفلسطين، على أنها “تمثيليات” في الغوطة الشرقية، معتبرًا أنها “تفبرك” مشاهد الموت والجرحى في الغوطة.
كما روج لرواية روسيا حول فتح ممرات إنسانية، متهمًا الفصائل بعرقلة خروج المدنيين، الأمر الذي نفته فصائل الغوطة لعنب بلدي، معتبرة أنه في إطار “التهجير القسري”، وتزامن ذلك مع استطلاع رأي نشرته إذاعة “شام إف إم” المقربة من النظام، تحت عنوان “إذا عندك غرفة فاضية بالبيت، فهل أنت مستعد لتستقبل فيها عائلة من الغوطة الشرقية هاربة من المسلحين؟”، وأبدى جميع من قابلهم مراسل الإذاعة استعدادهم لذلك.
دعاية الكيماوي
دأبت وسائل إعلام النظام قبل قرابة شهرين من بدء الحملة الأخيرة على الغوطة، على الترويج لامتلاك فصائل عسكرية في الغوطة أسلحة كيماوية، تعتزم استخدامها ضد المدنيين، وذلك لإبعاد الشكوك أو التهم عن قوات النظام في حال استخدمها، كما فعل في عدة حوادث أخذت بعضها أبعادًا دولية، وآخرها خان شيخون في ريف إدلب، نيسان 2017.
ونشرت قناة “الإخبارية السورية” الرسمية، عبر صفحتها في “فيس بوك” استطلاعين، الأول في 22 من شباط الماضي، مفاده “هل تعتقد أن منظمة الخوذ البيضاء التي أسّستها الاستخبارات البريطانية عام 2013، ستقدم من جديد على تنفيذ هجوم كيميائي في الغوطة الشرقية؟”، وبلغت نسبة الموافقين 68%.
رغم أن الهدنة التي طالب بها مجلس الأمن تحت القرار رقم 2401، وتلتها أخرى أقرتها روسيا الثلاثاء 27 من شباط الماضي، أوقفت القذائف على دمشق، لم تسهم في إيقافها على مدن وبلدات الغوطة، ومحاولات قوات الأسد والميليشيات الرديفة التوغل شرق دمشق. |
وكررت الاستطلاع بطريقة أخرى، في 1 من آذار الجاري، فكان السؤال “هل تعتقد أن استخدام الإرهابيين والخوذ البيضاء السلاح الكيميائي ضد المدنيين في الغوطة، مفيد لمشغليهم في الغرب لاستثماره سياسيًا وإعلاميًا في اتهام الدولة السورية؟”، ووصلت نسبة الموافقين إلى 74%، بعد 17 ساعة من نشره، إلا أن اعتبار النتيجة حقيقية غير وارد، كون أن رواد القناة معظمهم من الموالين للنظام.
ولم يقتصر الأمر على “الإخبارية”، بل شاركت في الترويج له شبكات موالية بينها “دمشق الآن”، “مراسلون سوريون”، وأخرى تديرها ميليشيات عسكرية على الأرض، إضافة إلى مشاركات شخصية من إعلاميي مؤسسات النظام، وعلى رأسهم مراسل التلفزيون الرسمي، جعفر يونس، وآخرون.
وتزامنت الدعاية مع جلسة مجلس الأمن حول الغوطة، نهاية شباط الماضي، فأثارت تصريحات مندوب النظام الدائم في الأمم المتحدة، بشار الجعفري مخاوف من استخدام الكيماوي قبل 13 من آذار الجاري، وخاصة في منطقة الغوطة، وهذا ما انتهجه الجعفري في سنوات مضت، إلى جانب الدعم الروسي الرسمي للرواية.
قابله تصعيد في الخطاب الدولي، مع زيادة حدة التهديدات الأمريكية إلى جانب بريطانيا وفرنسا، باستخدام القوة العسكرية في حال ثبت استخدام النظام للكيماوي، ودعوات لتشكيل لجنة تحقيق جديدة، وسط الحديث عن دعم كوريا الشمالية له بالأسلحة، الأمر الذي نفته الأخيرة، معتبرة أن واشنطن “اختلقت حجة للضغط على البلاد”.
شيطنة الخوذ البيضاء
منذ تأسيس “الدفاع المدني السوري” عام 2013، في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، والذي أطلق عليه مسمى “الخوذ البيضاء”، عمل النظام على “شيطنة” هذه المنظمة، على خلفية التعاطف والدعم الدولي الذي تلقته، باعتبارها “منظمة حيادية تعمل لصالح المدنيين المتضررين من القصف بشكل أساسي”، وهذا ما أظهرته مئات التسجيلات المصورة.
وكانت آخر الادعاءات التي أطلقها الإعلام الرسمي ضد “الخوذ البيضاء”، تجهيز المنظمة لـ “مسرحيات قصف المدنيين بالكيماوي”، في الوقت الذي وثقت فيه مصادر طبية لعنب بلدي، قصفًا فعليًا قامت به قوات النظام للغوطة، بأسلحة أدت إلى حالات اختناق، وقالت المصادر إن مدنيين بينهم أطفال أصيبوا بحالات اختناق، على خلفية قصف بلدة الشيفونية بغاز سام (الكلور)، في اليوم الثاني للحملة.
الاتهام المتكرر لـ “الخوذ البيضاء” انتهجه النظام بسبب عمل المنظمة في المناطق “المحررة”، وبروزها كطرف أساسي يوثق المجازر والقصف والاستهدافات الكيميائية بشكل خاص، وعلى رأسها الهجوم على الغوطة عام 2013، وهجوم خان شيخون الأخير، الذي وثقته مراكز حقوقية ووسائل إعلام محلية وعالمية.
ورصدت عنب بلدي عبر صفحات موالية للنظام، ترويجًا لمعلومات، زعمت فيها أن “الخوذ البيضاء منظمة تمول من منظمات أمريكية وبريطانية، لتكون صلة الوصل مع إرهابيي النصرة”، وشهد الأمر نشاطًا ملحوظًا في الأول من آذار الجاري، مع الاحتفال الدولي باليوم العالمي للدفاع المدني.
جذور مصطلح “بروباغندا”
يعود مصطلح “بروباغندا” في جذوره إلى اللغة اللاتينية، واستخدم لأول مرة في بدايات العصر الحديث من قبل الكنيسة الكاثوليكية خلال حرب الثلاثين عامًا في أوروبا، ثم ظهرت بشكل بارز في فترات الحروب العالمية، وما تلاها من حرب باردة بين أمريكا وروسيا، لتأخذ معنى سياسيًا منذ ذلك الحين.
وتهدف “البروباغندا” إلى التأثير على الرأي العام، وغالبًا ما يكون معناها سلبيًا وغير موضوعي في مجال السياسة، وتعتمد على التضليل وإخفاء الحقائق.
ويُسهم هذا النوع من الدعاية في السيطرة على الرأي العام، ودفعه لتأييد طرف دون آخر خلال الصراعات، وتبني أفكار مغلوطة عن الطرف الآخر أو “العدو”.
وغالبًا ما يطرح مروجو “البروباغندا” مشكلة ما، مختلقة في الغالب، ليتمكنوا من تمرير الحلول التي يريدونها، فإذا أرادت السلطات شن حملة عسكرية، تدعي بأن الأراضي التي تغزوها تشكل خطرًا على الآخرين، كامتلاكها أسلحة نووية مثلما حدث في غزو أمريكا للعراق، وقد تدعي السلطات بأنها تحارب الإرهاب، مثلما حدث في التدخل الروسي العسكري في سوريا.
وتدعي السلطات من خلال وسائلها الإعلامية تحقيق النصر، وتقدم واقعًا مخالفًا للحقيقة، للتأثير على قرارات الناس التي سيصيبها اليأس وتستسلم، كالشعارات التي روجها إعلام النظام السوري منذ بدايات الثورة مثل “خلصت”.
ويسهم هذا النوع من الدعاية السوداء بإعاقة تحقيق العدالة في كثير من دول العالم، التي تعرضت شعوبها للقمع والإبادة، لغزارة الأخبار المفبركة التي تطرحها السلطات، ما يصعب مهمة معرفة حقيقة الأحداث.
لعبة النظام.. خلط الحقائق
تكررت السيناريوهات التي طرحها الإعلام التابع للنظام السوري لتحديد الأحداث في سوريا بوجهة نظر ضيقة مرتبطة بالسلطة السياسية، وهو أمر متوقع، لكن ما بدا غريبًا خلال الأعوام الفائتة هو وجود شريحة من موالي النظام تتلقى رسائله الإعلامية دون تشكيك أو محاولة للاطلاع على روايات أخرى.
ولا تقتصر هذه الرسائل الإعلامية على محاولة تدعيم موقف النظام السوري وقواته وما يردفها من ميليشيات، بل تتجاوز ذلك إلى مرحلة “الحرب النفسية”، وتوظف لذلك حججًا ومبررات مختلفة، رغم أنها تفتقر إلى المهنية في الغالب، لكنها لا تدخر جهدًا لتصل إلى شريحة من الجمهور المحلي والعالمي.
يفسّر الصحفي السوري، مراد القوتلي، قبول بعض المتلقين لدعاية النظام الإعلامية بأنها محاولة للبحث عن مبررات لقبول مشاهد الدم والمجازر، ويضيف في لقاء مع عنب بلدي، “يُلاحظ هذا الأمر بشكل واضح على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال التعليقات التي يمكن قراءتها على الصفحات الموالية للنظام، لنجد أن كتاباتهم هي ترديد وتكرار لما تبثه وسائل إعلام النظام من تبريرات للمجازر المُرتكبة في الغوطة، من قبيل وجود إرهابيين، وتكفيريين، وعملاء، وخونة، يستحقون القتل والسحق بلا رحمة ولا هوادة”.
ومع الإشارة إلى أن هذا القبول عبارة عن آليات دفاعية نفسية، يمكن القول إنه لا يستند إلى قناعة راسخة أو حقيقية بمهنية ومصداقية وسائل الإعلام المرتبطة بالنظام.
ويذهب الصحفي السوري أحمد حمزة، إلى ترجيح الاحتمال الأخير، ويرى أن غالبية السوريين لا يثقون برسائل النظام الإعلامية، مضيفًا “في حال تم إجراء مسح أكاديمي نزيه لمعرفة ما إذا كان الجمهور السوري من مختلف التوجهات يثق أو لا يثق بوسائل إعلام النظام، سيكون بأن لا مصداقية لما تبثه أو تنشره هذه الوسائل من أخبار وغيرها”.
لكن خلف جدلية قناعة جمهور النظام أو عدمها برسائله، يمكن الإشارة إلى أن النظام نجح، ولو جزئيًا، فيما يخص التأثير النفسي على متابعيه، من خلال الحض على الكراهية بين مكونات المجتمع السوري.
زرع الفتنة
يعتقد الصحفي السوري، مراد القوتلي، أن تغطية وسائل الإعلام السورية للأحداث الأخيرة في الغوطة أسهمت في تعزيز الكراهية والانقسام، ويشرح وجه نظره بالقول: “في دمشق يوجد ما لا يقل عن ثمانية ملايين شخص، عندما تشتعل الأحداث في الغوطة وتتعرض للقصف، ويتعمد النظام الذهاب إلى منطقة الربوة لتصوير بعض العائلات وهم يتناولون الطعام على ضفاف بردى، فما غايته من ذلك؟ يريد أن يقول لأهل الغوطة شاهدوا أنفسكم تحت القتل والدمار، وهؤلاء الذين يعيشون في المدينة التي أسيطر عليها يعيشون بهناء وسرور”.
ويضيف القوتلي، “لكن الحقيقة ليست كذلك، فمعظم سكان الغوطة الشرقية الذين هُجروا من منازلهم انتقلوا للعيش في دمشق، وسكان دمشق تحدوا النظام منذ بدء الثورة وخرجوا مظاهرات في أخطر الأماكن بالعاصمة وأكثرها تحصينًا أمنيًا، وشاهدنا حملة التضامن مؤخرًا مع الغوطة، ولو رصدت قوات الأمن واحدًا من المشاركين فيها بالتأكيد سنسمع بعد فترة خبر تصفيته”.
ويشير القوتلي إلى أن النظام يستند في دعايته إلى “ضعف السوريين”، فـ “ثمن الكلمة في دمشق رصاصة في أحسن الأحوال، وفي أسوئها تعذيب لأشهر في المعتقلات ثم القتل”.
أما الصحفي أحمد حمزة، فيؤكّد أن “في دمشق مئات آلاف المتعاطفين مع أهالي الغوطة، لكن للأسف هناك أيضًا من يتأثر بمحتوى وسائل إعلام النظام، ويطلق خطابًا تحريضيًا على أهالي الغوطة، كما شاهدنا خلال الأسبوعين الماضيين، وهذا قد يدفع بعض أهالي الغوطة للرد على هذا الخطاب بنظير له”، مع الإشارة إلى أنه “ليس هناك خطاب من الغوطة الشرقية لناشطين أو شخصيات عامة، يحرض على إيقاع أذى بالمدنيين في دمشق”.
الغرس الثقافي
يعتقد الصحفي مراد القوتلي أن النظام عملَ منذ بدء الثورة على تطبيق نظرية الغرس بين الموالين بحذافيرها، وهي إحدى نظريات الإعلام التي تدرس كيف يتم التأثير على المتلقين بتأثير تراكمي طويل، فصوّر ما يجري في سوريا على أنه “حرب ضد الإرهاب”، ووصف كل من يقف بوجه النظام بـ “الإرهابي”، كما “خلق الذرائع وزيّف الحقائق لتكوين صورة ذهنية للمتلقين الموالين له، وتعمد تكرار مثل هذه الصور الذهنية لترسيخها في عقول قاعدته الشعبية، إلى أن كسب تأييدهم لعمليات القتل الواسعة وطريقة تعامله مع المدن الخارجة عن سيطرته”.
ويوافق أحمد حمزة الرأي الأخير، إذ يرى أن “وسائل إعلام النظام عملت منذ خمس سنوات وأكثر، على شيطنة سكان مختلف المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام”.
ويضيف “هذه الشيطنة بددت إمكانية أي تعاطف علني، من قبل سكان المناطق التي يسيطر عليها النظام، مع الضحايا المدنيين الذين يقتلهم الطيران أو القصف المدفعي والصاروخي خارج مناطق سيطرة النظام، بل إن التعاطف مع الضحايا بات أشبه بجريمة، كونه يُعتبر بتسويق وسائل إعلام النظام، تعاطفًا مع شياطين إرهابيين مارقين…”.
النظام ووسائل الإعلام العالمية
على الرغم من سعي وسائل الإعلام الغربي إلى استقصاء حقيقة الأوضاع في سوريا من خلال وجهات النظر والروايات المختلفة، فإن أخبار النظام غالبًا ما تكون في موقع تشكيك لدى أغلبها، ولعل المأساة التي تسبب بها النظام لملايين السوريين تعدّ الحدث الأوضح لدى وسائل الإعلام تلك.
وفي هذا الإطار يقول القوتلي لعنب بلدي، “إن إعلام النظام استطاع، في بعض الأحيان، إيصال روايته للمجتمعات الغربية بدرجة أكبر مما فعلته المعارضة، لكن تأثير ذلك باعتقادي لا يمكن قياسه بشكل دقيق، فإذا اعتبرنا أن إعلام النظام استطاع التأثير في جمهور حزب الله، أو إيران، أو روسيا، فذلك ليس نجاحًا، لأن وسائل إعلام هذه الأطراف تتعامل مع الوقائع في سوريا بنفس طريقة تعامل النظام”.
ويضيف القوتلي “أعتقد أنه لا ثقة لوسائل الإعلام العالمية المهنية برواية النظام، لا سيما أنه مُصنف ضمن أسوأ الدول في مؤشرات حرية الصحافة”.
فيما يشير الصحفي أحمد حمزة إلى أن النظام لم يخلق بالضرورة مصداقية لدى المتابع العربي والغربي، لكنه استطاع على الأقل إثارة حالة من الإرباك في فهم حقيقة ما يجري في سوريا من خلال أسلوب خلط الحقائق وتأطير الوقائع.
ويضيف حمزة، “مع مزاعم وسائل إعلام النظام، يتيه المتابع الغربي، وحتى العربي أحيانًا، عندما يغرق باستطلاع تفاصيل حقيقة ما يجري بدقة. وبهذا تكون وسائل إعلام النظام، قد نجحت جزئيًا بتشويه الحقيقة، التي باتت تلفها الضبابية وتتناقض فيها الروايات والروايات المضادة بحدة”.
إصلاح الإعلام السوري رهن التغيير السياسي
في العام 2008 كان قد مرّ على إطلاق قناة “الدنيا”، المحسوبة على القطاع الخاص، عام واحد، أثبتت خلاله أنها نسخة مطوّرة عن “التلفزيون العربي السوري”، وتلاشت الآمال بتحرير قطاع الإعلام من هيمنة النظام.
خلال العامين التاليين زاد عدد الإذاعات السورية الخاصة بشكل كبير، كما شهد قطاع الصحافة المطبوعة انتعاشًا نسبيًا مع دخول مطبوعات خاصة على خطّ النشر، فيما أبصرت بعض المواقع الإلكترونية النور بطاقة أكبر، على الرغم من مستوى حرية التعبير المتدني الذي كان متاحًا ذلك الحين.
لكن المحاولات التي بدأت في إطار الانتقال إلى إعلام سوري خاص يناسب شرائح المجتمع المختلفة، كانت مثل “إبر التخدير” التي استخدمها النظام السوري في مواجهة محاولات التغيير السياسي، والتي بدأت تظهر للعلن في العام 2006، وتشير إلى ذلك عودة وسائل الإعلام السوري في مرحلة ما بعد الثورة إلى تبنّي خطاب النظام إلى حد المطابقة، والتسويق لرواياته.
خلال الثورة، لم يعد تصنيف وسائل الإعلام وفق القطاع (خاص، عام) أمرًا عمليًا، بل أصبح الفرز قائمًا فقط على التوجّه السياسي، إذ أخذت أغلب وسائل الإعلام في مناطق النظام، سواء حكومية أم خاصة، صورة الإعلام الرسمي، واصطلح على تسميتها “وسائل إعلام موالية” أو “وسائل الإعلام التابعة للنظام”.
ووفق ذلك فإن الإعلام في سوريا لم يتحرر من هيمنة النظام، بل اقترب منها وابتعد عنها بمسافات ضئيلة وتحت إشراف مباشر من السلطة، ما يطرح أسئلة حول إمكانية إصلاح هذه المنظومة الإعلامية في المستقبل من عدمها.
بالنظر إلى تجارب الدول العربية في هذا الإطار، يمكن القول إن الأنظمة السياسية في أغلب الدول العربية، لم تتخلَّ يومًا عن سيطرتها على الإعلام، حتى في الدول التي شهدت ثورات، وربما يعود ذلك إلى ضعف البدائل المتوفرة، وصعوبة التحكم في الأطر التشريعية العريضة المتعلقة بالأمر.
ففي مصر، على سبيل المثال، شهد الإعلام الحكومي والمقرب من النظام السياسي انتشارًا أوسع، خاصة إثر انقلاب الرئيس الحالي، عبد الفتاح السيسي، إذ زادت القيود المفروضة على الإعلام، وعجزت القوانين الجديدة عن منح بعض الحرية للصحفيين.
وفي ليبيا، شهد الإعلام زيادة كبيرة في مستويات “خطاب الكراهية” بعد سقوط نظام القذافي، ليتراجع من كونه مجرد إعلام مناصر للقائد، إلى إعلام مهدد للسلم الأهلي، في ظل المحاولات الحثيثة من جهات عدّة لإصلاح المنظومة الإعلامية.
وفي الدول العربية الأخرى التي لم تشهد ثورات مماثلة، تعاني هيئات الاتصال السمعي والبصري من افتقارها للاستقلالية عن الحكومات، ما ينعكس سلبًا على الأداء الإعلامي العام في هذه الدول.
ولعل القواعد التشريعية للهيئات المعنية بتنظيم الإعلام هي إحدى أكبر المشاكل التي يعاني منها الإعلام في العالم العربي عمومًا، والتي تحول دون “دمقرطته” وتخلصه من أعباء الأنظمة الحاكمة، وفق دراسة أجراها أستاذ الإعلام والتواصل بجامعة الأخوين في المغرب، زايد بوزيان، ونشرت على موقع “مركز الجزيرة للدراسات” عام 2016.
وينطبق ذلك على الحالة السورية، إذ يمثّل قانون الإعلام الذي صدر عام 2011، أي عقب الثورة السورية، أحد أكبر الأدلة على محاولة تقييد الإعلام، فعلى الرغم من البنود المتعلقة بتسهيلات منح التراخيص وحرية التعبير، يحمل البند المتعلق بتجريم المساس بالهوية الوطنية والسيادة، مفاتيح التحكم الأساسية في الإعلام.
ووفق ذلك، فإن الحديث عن إصلاح المنظومة الإعلامية في سوريا، أمر لا يمكن الجزم به حاليًا، وهو رهن التغيير الذي سيصيب النظام السياسي، وما يرتبط بذلك من طرح دستور جديد وقوانين وتشريعات خاصة بالأمر.
كما سيتيح التصلب في وضع الإعلام الرسمي مجالًا أكبر لانتشار وسائل إعلام “بديلة” تسعى لتحلّ مكان وسائل الإعلام الرسمية في حال الانتقال السياسي، الأمر الذي يزيد من ضبابية مستقبل الإعلام السوري المرهون بخيارين، إما وسائل إعلام متجذرة تقاوم التغيير وتمنع الحريات، وإما وسائل إعلام وليدة غير مبنية على أسس متينة.
الشارع السوري: النظام يبثّ الكراهية في المجتمع
أجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي عبر موقعها الإلكتروني لرصد رأي الشارع السوري في دور الإعلام الرسمي بزرع الخلاف بين أهل دمشق وأهل الغوطة الشرقية، على خلفية التصعيد العسكري الأخير، وما تبعه من اتهامات بين الجانبين بالمسؤولية عن أمان المدنيين.
تلك الوتيرة من الاتهامات، والتي وصفها البعض بـ “الفتنة””، استوجبت رصد دور الإعلام السوري الرسمي، تحديدًا، في إشعال ذلك الفتيل أو إخماده، خاصة مع نشر مقاطع فيديو لأشخاص في دمشق طالبوا بمعركة حاسمة تخلصهم من “الإرهابيين” في الغوطة.
وجاءت صيغة السؤال الذي نشرته عنب بلدي على موقعها كما يلي: “هل تعتقد أن الإعلام السوري الرسمي يسعى إلى تحويل المعركة في الغوطة إلى حرب بين أهالي دمشق وأهالي الغوطة؟”.
63% من مجمل المستطلع رأيهم، وعددهم ألفان، رأوا أن للإعلام السوري دورًا كبيرًا في زعزعة تعاطف أهل دمشق مع ما يرتكبه النظام السوري من مجازر بحق أهل الغوطة.
وقالت إنصاف نصر، “نعم هذا النظام المجرم يلعب على هذا الوتر من زمان، هو من يمطر العاصمة بالقذائف ويقول إن ثوار الغوطة هم الذين يضربون”.
وأيدت غادة عزازي ما قالته إنصاف بقولها، “منذ سنوات وهو (النظام) يقوم بالتفجيرات ورمي القذائف في دمشق، ويتهم ثوار الغوطة بذلك تحت مسمى (إرهابيين)”.
وتابعت، “كثير من الناس يمتازون بدرجة عالية من الوعي يستطيعون بفطنتهم تحليل الأمور وحيثيات الحدث ويدركون كذب الإعلام، وآخرون كالبغال لا ينظرون إلا حيث تعلق لهم المخلاية وخاصة أولئك الذين يعانون من عاهة التصفيق المستدامة”.
فيما رأى 17% من المستطلع رأيهم أن الإعلام السوري الرسمي لم يكن له دور في إشعال الخلاف بين أهل الغوطة وأهل دمشق، وقالت سلوى محمود “الحرب قايمة قايمة سواء في إعلام أو لاء”.
أما 20% من المشاركين فلم يستطيعوا تحديد موقفهم من دور الإعلام السوري الرسمي بهذا الخصوص.
وانتشرت دعوات بين المشاركين في الاستطلاع إلى عدم الانجرار وراء ما يروج له إعلام النظام لبث “الفتنة” بين أهالي دمشق وأهالي الغوطة.
وقال باسم الزعبي، “أهل دمشق هم أهل الغوطة، ومن يوجد الآن في دمشق بغالبيتهم ليسوا من سكان دمشق الأصليين”، وتابع “ما هي دمشق من غير غوطتها؟”.
فيما قالت نهى أبو دراع، “يا ريت الناس تشغّل عقلها شوي بقى، وتفهم اللعبة وهي قتلهم جميعًا بأيدي بعضهم البعض”.