خطيب بدلة
أعادني التحقيق الصحفي الذي أعدته الصحفية حلا إبراهيم، ونشر في العدد 313 من عنب بلدي، في 25 من شباط 2018، بالذاكرة خمسين سنة ونيفًا إلى الوراء، إلى أيام التلفزيون الأبيض والأسود، الذي كنا نسميه أحيانًا “التلفزيون المْكَزْبَرْ”، لأنه يبث فترة قصيرة، ويغيب الإرسال، وتمتلئ الشاشة بنقاط “مكزبرة”، وبعدها يعود الإرسال بشاشة ثابتة تُكتب عليها عبارة: عطل فني. وأول جملة تقولها المذيعة بعد استئناف البث هي: نعتذر عن هذا الخلل الفني ونواصل إرسالنا.. وقد استمر حدوث انقطاع الإرسال سنين طويلة، أي حتى أيام التلفزيون الملون، وذات سنة، ومن كثرة ما حصلت انقطاعات فنية، نشر الفنان علي فرزات لوحة كاريكاتيرية هي عبارة عن شاشة، في داخلها مذيعة تقول وهي مبتسمة: نعتذر عن هذا الإرسال الفني، ونواصل انقطاعنا!
عندنا في بلدة معرتمصرين، في الستينيات، كانت الفرجة على التلفزيون، بحد ذاتها، تستحق الفرجة، فلأن أجهزة التلفزيون المتوفرة في البلدة قليلة، كان الأهالي يتقاسمون الأُسر التي تمتلك جهاز تلفزيون، فتذهب كل مجموعة منهم للسهر عند إحداها، ويجلسون في الغرفة التي فيها الجهاز مترادفين، مثل السينما، ويتسلون ببعض الموالح والبزورات، مع الشاي الذي تقدمه صاحبة البيت للضيافة.
المهم أن الإرسال يبدأ، ويستمر فترة تطول أو تقصر بحسب حظوظ الساهرين، إلى أن يقع المحظور، وتظهر “الكَزْبَرَة” على الشاشة، ووقتها ينجرد أحد الشبان، من أبناء الأسرة المضيفة، ويهب بعض إخوته ورفاقه لمعاونته، فيصعد بعضهم إلى السطح حيث جهاز التقوية (الأنْتين)، ويقف بعضهم على النافذة (أو البلكون إن وجد) ويبرم رأسه إلى الأعلى، ويبدأ الصياح من فوق ومن تحت: دَوِّرْ. ابروم، خود عاليمين، لا لا، ارجاع، أي بس هيك. أيوه. يعني نثبت؟ أي ثبت. ويثبتون الآنتين بعد أن ينجح فريق الإصلاح العجيب في استعادة الصورة.
شاعت في تلك الأيام طرفتان، إحداهما قديمة، تتحدث عن معاون باص يساعد السائق في عملية التدوير، فيقول له إرجاع، إرجاع، خود عاليمين، خود عاليسار، هوب، دعست الزلمة! وأما الطرفة الجديد فهي: ع اليمين، عاليسار، لورا شوي، لقدام.. دج. وقع الأنتين!
كان الناس يحفظون البرامج التي تقدمها قناة البرنامج العام عن ظهر قلب: نشرة الأخبار، والتعليق السياسي، ومن الألف إلى الياء، وطرائف من العالم، إضافة إلى وصلات غنائية لصباح فخري، وسميرة توفيق، ونازك، وهيام يونس، وصباح، وفهد بلان… ومن الطرائف التي لا تغادر ذاكرتي أن أحد الأعمام المحترمين، وكان يومها في السبعين من عمره، كان مولعًا بسميرة توفيق في المقام الأول، تليها صباح، ولم يكن لديه وقت يتابع فيه برامج التلفزيون، لذلك عَقَدَ مع حفيده، صديقنا مصطفى، اتفاقًا (جنتل)، وهو أن يراقب مصطفى التلفزيون حتى تظهر سميرة، فيركض إلى المقهى وهو يهتف: جدي طلعت سميرة، فيناوله الجد نصف ليرة ويهرع إلى البيت ليتفرج على الوصلة… وفي إحدى المرات سألنا مصطفى عن تسعيرة الإخباريات التي كان ينقلها لجده، فقال لنا ببراءة:
– سميرة توفيق بنص، وصباح بربع!