خلال سبع سنوات منذ انطلاق الثورة السورية كان التوجه الدولي السائد هو تحييد المحيط عن تبعات القضية السورية، ذلك كان يعني تحديداً السماح بالعبور من طرف واحد فقط، هو في اتجاه الداخل السوري. وكما نعلم لم تتأخر ميليشيات حزب الله في التدخل إلى جانب تنظيم الأسد، لتتبعها ميليشيات تابعة للحرس الثورة الإيراني ومن ثم ميليشيات شيعية عراقية وأخرى أفغانية. تركيا، التي بدأت بالتدخل على نحو غير مباشر عبر دعم فصائل مقرّبة منها، كانت هواجسها الكردية مناسَبة للتدخل المباشر، ولو أتى أولاً بصيغة الإشراف على فصائل درع الفرات في الباب وجرابلس، ليشارك جيشها في ما بعد بكل ثقله في الهجوم على عفرين.
إلا أن التوجه الدولي لحصر النزاع في سوريا قد لا يصمد على المدى البعيد، والرهان العسير على الضبط معرّض للسقوط جرّاء عدم القدرة على استرجاع الاستقرار إلى سوريا نفسها. هنا من الأفضل التفكير مليّاً في كل ما يُشاع على القدرة الدولية، إذا توفرت النوايا، على استعادة البلاد وحدة أراضيها، أو القدرة على ردم التصدعات العميقة ضمن المجتمع السوري، أو بالأحرى المجتمعات السورية. على هذا الصعيد لدينا مثالان سابقان يتوجب التوقف عندهما، هما اللبناني والعراقي، فالإحتراب الأهلي في البلدين استجلب تدخلات خارجية، وطغى العامل الخارجي على الداخلي في التسويات التي انعقدت لإنهاء الحرب، إلا أن الحرب المحلية لم تنتهِ سوى على صعيد وقف إطلاق النار المباشر، بينما بقيت بمثابة الحرب الباردة التي تهدد بالانفجار في أي وقت.
أهمية سوريا بين المثالين السابقين أنها كانت تبدو إلى وقت قريب في منأى عن اضطراب بعيد الأمد، بل كان يُنظر إليها كعامل استقرار بسبب ابتعادها عن الإشكالات الديموغرافية التي تسببت في أكثر من جولة حرب في لبنان، وتسببت في العديد من الانتفاضات ضمن العراق حتى أثناء حكمه بالقبضة الحديدية لصدام. فسوريا كانت تحوز أغلبية مذهبية وإثنية صريحة تجعل منها عامل استقرار، إذا أخذنا في الحسبان عدم مضي هذه الدول جميعاً في اتجاه الدولة الوطنية ودولة المواطنة.
ضمن مجتمعات لم تنفصم فيها أواصر ما قبل الدولة، سواء لأسباب مجتمعية أو بفعل الاستبداد، لا يندر أن تندلع الحرب الأهلية بسبب مظلومية يرى أصحابها أنهم قادرون على الثأر لها، أو بسبب تغير في موازين القوى ومنها تغير الميزان الديموغرافي على المدى البعيد. هذا الاحتمال يكون وارداً أكثر مع انتفاء وجود ترجيح ديموغرافي مسبق لأية فئة، لأن وجود ترجيح من هذا القبيل يجعل المغامرة صعبة جداً من قبل الفئات الأضعف، فيما لا تحتاج الفئة الأكبر عددياً إلى مغامرة لتأكيد أرجحيتها.
في الصراع الحالي على سوريا كان التغيير الديموغرافي واحداً من أهداف الحرب على الثورة، ويمكن القول بأنه تحقق إلى حد كبير جداً، ذلك ينبغي أن يشكّل ضمانة على المدى البعيد للقوى المستفيدة منه، إلا أن المسألة ليست بتلك البساطة طالما لم يأتِ التغيير ساحقاً بحيث يقضي على الآخر وعلى المخاوف منه معاً. بهذا المعنى يمكن القول بأن التغيير الديموغرافي في سوريا قد أنهى الحقبة التي كانت تظهر فيها سوريا كبلد محصّن ومستقر، وانتقل هذا البلد إلى حالة مشابهة للمثالين العراقي واللبناني، أي أنه صار يتمتع بعوامل عدم استقرار ذاتي تفوق تلك التي كانت قبل سبع سنوات.
كأن سوريا كانت بمثابة خطأ ضمن شرق المتوسط! فالآن يمكن القول بأن هذه المنطقة باتت متشابهة جداً، وبلدانها جميعاً مفتوحة على المجهول. ذلك لا يمنح أملاً للجوار السوري، حتى إذا بدا مستفيداً ضمن المدى المنظور، أو كان بعضه على الأقل يظن نفسه مستفيداً. فاستقرار سوريا يبدو ضرورياً لاستقرار لبنان والعراق غير المستقرين أصلاً، وتدخّل ميليشيات من البلدين وفق أجندة طائفية إذا حقق انتصاراً الآن فلن يعني مستقبلاً سوى حالة موصولة من عدم الاستقرار الإقليمي، يكون فيها كل بلد تحت ضغط جواره واضطراباته.
حتى إيران وتركيا، وإن بدتا في موقع القوى الإقليمية الراسخة والطامحة، قد لا تبقيان بعيدتين عن هذا التأثير، وعلينا قراءة التصريحات الإيرانية من نوع “الدفاع عن دمشق هو دفاع عن طهران”، والتصريحات التركية حول الأمن القومي في ما يخص القضية الكردية، على محمل الجد. فالبلدان أيضاً غير بعيدين عن ذلك التنوع المفخخ، مع عجز عن إدارته يظهر في موجات من الاضطراب والعنف الواقعين تحت السيطرة حتى الآن، من دون ضمانات بالقدرة على السيطرة إلى ما لا نهاية، ومن دون وجود مؤشرات على تحول تاريخي في أنظمة الحكم فيهما.
القدرة الدولية والإقليمية على ضبط الصراع ضمن سوريا فحسب لن تكون بلا نهاية، فضلاً عن أنها ستكون خاضعة لاستراتيجيات قد تتغير لاحقاً. هنا يمكن لنا ملاحظة تغير الاستراتيجيات بين مستهل ثورات الربيع العربي، حيث كانت السياسات الغربية مشجّعة له عموماً، وبين انقلاب السياسة الغربية لتنحصر بين الإبقاء على الوضع الحالي أو دعم “الثورات المضادة”، مع دفن الخيار الديموقراطي في الحالتين. ليس هناك ما يمنع توفر رغبة في استمرار حالة الفوضى في المنطقة عموماً، وأمام هذا الاحتمال قد تتعدد الساحات أو تأخذ دورها على التوالي، من دون أن ندخل في نظرية المؤامرة إذ يكفي أن تُترك المنطقة لتناقضاتها كي تتكفل بإنجاز الفوضى. في واحد من الأمثلة على نمط التفكير هذا نذكر أن إدارة كلينتون، بعد يأسها من عقد تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أبلغت الجانبين أنها تتخلى عن وساطتها وأنهما سيعودان لطلبها بعد أن تنهكهما الحرب، والحديث هنا عن إدارة مثّلت أفضل نموذج أمريكي لما بعد الحرب الباردة، ومع ذلك لم ترَ مانعاً من إسالة المزيد من الدماء لغرض سياسي تحسبه مناسباً.
ليس إسرافاً في التشاؤم القول بأن المنطقة مقبلة على مستقبل شديد السوء، أو على حرب الجميع ضد الجميع، في حال تُركت القضية السورية ضمن مسار الإبادة الحالي، وإذا لم يكن هناك تغيير يضمن عودة اللاجئين ضمن مناخ من التغيير الديموقراطي الحقيقي. فقط يلزم التأكيد مرة أخرى على أن الخارج لن يتولى دفع المنطقة إلى هذا المصير وفق نظرية المؤامرة، بل يكفي أن يلعب دور المتفرج أو المشجّع حسبما تقتضي مصالحه، وأن تتولى المهمة القوى المسيطرة على هذه البلدان.