عنب بلدي – حلا إبراهيم
كان “صبي المنجد” وهو جالس خلف كومة القطن التي يندفها ينصت إلى أحاديث “شيخ الكار” مع زبائنه وزواره، الذين يجدون عنده مكانًا آمنًا لإفراغ ما في قلوبهم من هموم، وربما حلولًا مقترحة لمشكلاتهم، فينسج بإبرته حكايا يخفيها في مخيلته.
من هنا بدأت الدراما في سوريا، حيث كان هذا الصبي حكمت محسن يستمع يوميًا لحكايات أمه عما سمعته من “الحكواتي” وشاهدته الفي “استقبال النسوان”، وبما تمتعت به “خيرية خانم” من موهبة في السرد استطاعت أن تجعل من ابنها أول من أسس للدراما في سوريا.
مرت الدراما في سوريا بمراحل التطور الطبيعية فبلغت ذروتها وبقيت متربعة على عرش الدراما العربية لعدة سنوات وكان لذلك أسبابه، واليوم تغير كل شيء، ويعزو صناع الدراما هذه “الكبوة” إلى عوامل عدة أهمها الإنتاج.
بدايات الإنتاج السوري تنطلق من الإذاعة
تأسس التلفزيون السوري الرسمي عام 1960، بعد كل من العراق التي كانت لها الريادة، ومصر، ولكن لم ينتظر إبداع المؤلفين حتى تأسيس التلفزيون، فبدأوا عن طريق الإذاعة.
وشهدت الإذاعة انطلاقة الدراما قبل التلفزيون فكان حكمت محسن أول من أبدع تمثيليات إذاعية عبر إذاعتي “الشرق الأدنى” التي تبث من قبرص، و”الإذاعة الوطنية” التي سميت فيما بعد “إذاعة دمشق”، وقدم للإذاعة تمثيليات تجاوزت 800 حلقة، منها “طاقية الإخفا”، و”الخطابة”.
ويعود لحكمت محسن اختراع شخصيات شعبية بقيت في الذاكرة السورية حتى يومنا هي “أبو فهمي”، “أبو صياح”، “أم كامل”، و”أبو رشدي”، وقدم للتلفزيون المسلسل الشعبي “مذكرات حرامي” الذي تحول من الإذاعة إلى التلفزيون عام 1986، من إخراج علاء الدين كوكش.
وعن هذه الفترة يروي المخرج السوري ثائر موسى، كيف كان إنتاج الأعمال الدرامية السورية في بدايات التلفزيون، يعتمد حصريًا على التلفزيون السوري (القطاع العام) لعدم وجود شركات إنتاج خاصة في ذلك الوقت، وهذا ما أثر برأيه على انتشار الأعمال الدرامية السورية وكمية الإنتاج، ونوعيته، فلم تكن الجهة المنتجة (التلفزيون) تنفق بسخاء على المسلسل خوفًا من الخسارة.
وبالرغم من ذلك تعتبر الريادة للتلفزيون الرسمي، نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، في إنتاج الأعمال الدرامية، وقد أنتج مسلسلات مهمة ومازالت مشاهدة حتى يومنا الحالي، مثل مسلسلات “حكايا الليل” للمخرج غسان جبري وتأليف الكاتب الكبير محمد الماغوط، و”أسعد الوراق”، “حارة القصر”، “مذكرات حرامي” للمخرج علاء الدين كوكش.
ويضيف المخرج ثائر موسى “هذه الأعمال كرست هؤلاء المخرجين ليصبحوا فيما بعد من كبار المخرجين”.
رقابة ومعايير تقيّد الإنتاج
يعود الإنتاج الخاص للدراما السورية إلى “محاولات خجولة،” أوضح المخرج ثائر موسى لعنب بلدي أنها تمت باجتماع فنانين سوريين برأسمال بسيط، وبدأ على شكل “فيلم تلفزيوني أو ما يسمى سهرة تلفزيونية، ثم تطور الأمر إلى إنتاج الثلاثيات، ثم السباعيات، فالمسلسل الدرامي المؤلف من 13 حلقة، إذ لم يكن نظام الثلاثين حلقة متبعًا آنذاك”.
ولكن برأي موسى، كبلت هذه المحاولات قيود الرقابة في الدول التي تعرضها، وخاصة أنه لم يكن يوجد في سوريا تسويق داخلي، فيسعى منتجو العمل لضمان تعويض المبلغ الذي أنفقوه على الإنتاج إلى تسويقه في دول الخليج، وفي المملكة العربية السعودية تحديدًا، والتي بدورها تمارس رقابة صارمة على عرض هذه المسلسلات ما دفع المنتجين السوريين في ذلك الوقت إلى مراعاة المعايير الرقابية السعودية أثناء تصوير العمل، وذلك لضمان تسويقه، فعلى سبيل المثال “لم يكن يسمح بذكر أسماء دينية غير إسلامية بين أفراد طاقم العمل، فكان يكتب بدل اسم الفنان يوسف حنا (يوسف الخليل)، كما كتب اسم عبد الله نعمه بدل اسم المخرج عبد المسيح نعمه”.
المنتجون في ذلك الوقت كان لهم عذرهم فلم تكن الفضائيات قد غزت المنازل بعد، كما لم يكن في سوريا سوى قناة واحدة هي “البرنامج العام”.
وعن الرقابة على المسلسلات الدرامية تحدثنا إلى الكاتب السوري خطيب بدلة، الذي شرح لعنب بلدي تجربته كمقيّم نصوص، وكاتب دراما، فقال “كنت أقرأ النصوص التي يحولها إليّ التلفزيون السوري، لتقييمها من عدة نواح، وهذه النصوص بعضها مقدم لإنتاج التلفزيون (القطاع العام) وبعضها لإنتاج القطاع الخاص، ولكن جميعها يجب أن تخضع لرقابة دائرة التقويم والرقابة، التابعة للتلفزيون السوري”.
هناك معايير ثابتة لا تختلف بين المسلسلات المعروضة على القطاع العام أو الخاص، مثل العبارات الخادشة للحياء، أو التلميحات السياسية، ولكن المسلسلات المقدمة إلى القطاع العام كانت تخضع لرقابة إضافية من حيث سوية العمل فنيًا، فإن لم يكن ذا قيمة فنية لا تتم الموافقة عليه
عصر ذهبي.. تجارب إنتاجية سورية ناجحة
بدأت الشركات الخاصة بدخول ساحة الإنتاج الدرامي منذ بداية الثمانينيات، وكانت أولى هذه الشركات هي شركة داوود شيخاني، الذي أنتج مسلسل “بصمات على جدار الزمن” عام 1980، من إخراج هيثم حقي، وبطولة ياسر العظمة، نادين، أسعد فضة، وهاني الروماني.
ثم أعاد شيخاني التجربة مع المخرج هيثم حقي، في مسلسل “حرب السنوات الأربع”، عام 1985، والذي لقي نجاحًا كبيرًا ويعتبر هذان المسلسلان من كلاسيكيات الدراما.
ثم خاض حقي أول تجربة إنتاجية له عام 1988 عندما أنتج وأخرج مسلسل “دائرة النار” الذي جمع عددًا من نجوم الدراما مثل سامية الجزائري، طلحت حمدي، عبد الهادي صباغ، وسمر سامي.
شجعت هذه التجارب أصحاب رؤوس الأموال على تأسيس شركات متخصصة بالإنتاج الدرامي، فظهرت بداية التسعينيات شركات أحدثت نقلة نوعية في الدراما، مثل “الشام الدولية” والتي يعود لها الفضل في إنتاج أعمال درامية متميزة، بدأتها عام 1991، بمسلسل “الدغري” إخراج هيثم حقي، ثم “نهاية رجل شجاع” إخراج نجدة أنزور عام 1994، ثم يوميات مدير عام، عيلة خمسة نجوم، للمخرج هشام شربتجي، ومسلسل “إخوة التراب” عام 1996.
كما ظهرت في تلك الفترة شركة “السيار”، التي قامت بإنتاج مسلسلات وسهرات تلفزيونية ناجحة.
وكان لخروج المسؤول السوري السابق عبد الحليم خدام من سوريا بصحبة عائلته أثره على شركة “الشام الدولية”، والتي تعود ملكيتها لابنه باسم خدام، ويديرها الفنان أيمن زيدان، فحاول زيدان أن يعيد تشغيلها عام 2004 لوحده، لكنه لم يستطع.
ثم ظهرت شركة “سورية الدولية” التي سلكت خطًا شبيهًا بخط سابقتها “الشام الدولية”، من حيث جودة الأعمال التي كانت تنتجها، وتعاملت مع أهم المخرجين السوريين، مثل حاتم علي، المثنى صبح، والليث حجو.
ومن الأعمال التي أنتجتها مسلسل “عصي الدمع” للمخرج حاتم علي، سلسلة “بقعة ضوء”، “التغريبة الفلسطينية”، ومسلسل “الخربة”.
كما شاركت محطات فضائية في إنتاج أعمال درامية سورية، وكانت غالبًا تأخذ عرضها حصريًا، مثل مسلسل “الحصرم الشامي”، و”أناشيد المطر”، التي أنتجتها محطة “أوربت” الفضائية.
وكانت تلك الفترة هي العصر الذهبي للدراما السورية، والذي حصدت خلاله الأعمال السورية جوائز عدة، خاصة بعد تعثر الدراما المصرية، التي تعد المنافس الوحيد للدراما السورية عربيًا.
كما لمس المؤلفون والمخرجون نتيجة هذا الازدهار الإنتاجي سهولة في التعامل، فيقارن الكاتب خطيب بدلة بين أعمال قدمها لإنتاج التلفزيون السوري وأخرى قدمها للقطاع الخاص، ويرى أن التعامل مع القطاع الخاص مريح أكثر للكاتب، من حيث الالتزام بوقت العمل بموجب خطة إنتاجية تسير بموجبها دون تأخير، على عكس القطاع العام.
منافسة سورية- مصرية.. التفوق بدأ في الدراما التاريخية
يعود الفضل في أول مسلسل درامي عربي لمصر عندما أنتجت مسلسلًا بعنوان، “هارب من الأيام” عام 1962، فكانت مصر صاحبة ريادة في الإنتاج الدرامي، واستمرت بالتفوق دون وجود منافس حتى بداية التسعينيات.
يعزو المخرج ثائر موسى بدء منافسة الدراما السورية للمصرية، إلى عدة عوامل أهمها “تفوق الدراما التاريخية السورية على المصرية”، فهو يرى أن الأعمال السورية التاريخية متميزة، وناجحة، وهذا ما أثبته حصول المسلسلات السورية دائما على جوائز “أفضل عمل تاريخي”، وهذا يرجع إلى “وجود مخرجين متميزين في الدراما التاريخية مثل حاتم علي الذي أخرج مسلسل (الزير سالم)، والإنفاق بسخاء على هذه الأعمال لتأخذ حقها من التصوير والملابس والديكور”.
والعامل الآخر برأي موسى هو التسويق، إذ ازدهر التسويق الخارجي بالنسبة للدراما السورية، فازداد عدد المحطات الفضائية التي تشتري الأعمال السورية، وخاصة بعد أن أصبحت اللهجة السورية مفهومة.
بالإضافة إلى تراجع الدراما المصرية، التي أصبحت تعاني في تلك الفترة من النصوص الضعيفة.
كل هذه العوامل جعلت الدراما السورية تتصدر خلال عقد من الزمن، وتجذب الممثلين العرب الموهوبين الباحثين عن الشهرة، للتمثيل في الأعمال السورية لتظهر طاقاتهم الإبداعية، وكانت الدراما السورية انطلاقة لهم، مثل الممثلة الأردنية صبا مبارك، الممثل الأردني نضال نجم، والممثل اللبناني رفيق علي أحمد.
الدراما أصبحت تراجيديا بعد الثورة
شهد عام 2005 مقاطعة عربية لسوريا، بعد كلمة ألقاها الأسد في القمة العربية، أساء فيها إلى الزعماء العرب، ومن أوجه هذه المقاطعة عدم شراء أي عمل درامي سوري، أو عرضه على الفضائيات العربية.
وشكل ذلك حالة مخيفة عند شركات الإنتاج التي بدأت تخسر حتى نفقات التصوير، ثم بدأ الوضع بالتحسن نتيجة التدخلات الدولية للمصالحة بين النظام السوري والأنظمة العربية الأخرى، ما أعاد الدراما السورية إلى السوق العربية.
ولكن بعد 2011، بدأت شركات الإنتاج المعروفة بالحد من أعمالها، وبعضها غيرت اسمها مثل “سورية الدولية” التي أصبح اسمها “سما الفن”، كما ظهرت شركات جديدة ولكن برؤوس أموال صغيرة انعكست على نفقات الإنتاج فأصبحت تأتي بممثلين مغمورين لتوفير نفقات الممثلين المشهورين.
وبرأي المخرج موسى، فإن هذا أحد عوامل تدهور الدراما السورية بعد الثورة، إضافة إلى هزالة النصوص، وظهور شركات للإنتاج الدرامي، لا تفقه شيئًا عن الإنتاج، وتسعى للربح فقط.
وعبّر عدد من الفنانين السوريين، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عن استيائهم من الحالة المتردية للدراما السورية، كان آخرهم سيف الدين سبيعي، الذي أعلن اعتزاله طالما أوضاع الدراما السورية بهذا السوء.
بينما انتقد الفنان حسام تحسين بك، خلال حفل “درامانا بخير”، الذي أقيم في تشرين الأول 2017 بدمشق، زيادة أرقام شركات الإنتاج دون إنتاج، إذ وصل عددها إلى 240 شركة، بحسب صحيفة “تشرين” الرسمية.
وقال تحسين بك “هل يوجد في هوليوود هذا العدد من شركات الإنتاج؟ تفاجأت بهذا العدد، أين إنتاج هذه الشركات”.
بينما عادت الدراما المصرية تسترد ألقها نتيجة لجوئها إلى نصوص جيدة، ومخرجين من أرضية سينمائية ارتقوا بالصورة، وأوجدوا حالة جديدة للدراما بعيدة عن الماضي.