رجل المروءة الحقّة

  • 2012/06/25
  • 12:34 م

جريدة عنب بلدي – العدد 21 – الأحد – 24-6-2012

 

 

سأحاول أن أطفئ لهيب الحزن من زفراتي، ربما بأنّات أو بشتات حروف ألملمه فأصنع منه ترياقًا يداوي جراح المروءة المكلومة، التي ذُبحت بأيدي الغادرين، ونزعة الملتاعين، فبات همهم عذلي، وما عرفوا أن عذلي ليس بنافع بل صبرهم على شكاتي هو الحل لمرضهم، وأخذهم من ترياقي هو جزء من علاج دائهم، فما دروا أن مصيبتنا تزداد بخسارة العاقلين للنصيحة، وباعتلاء كرسي النصيحة جاهل لا يسمع بني أمه، بل وأكثر فهو يحاول أن يطوي المروءة والشجاعة والغيرة على الأعراض والدماء في الظلمات كلمح البصر أو أقرب إن استطاع لذلك سبيلًا.

 

ربما أطلت في سرد كلماتي، ولكن تأبى دواة حبري أن تجف أو أن ينضب حبر قلمي قبل أن يخط ولو كلمات عن فتى بلدي، عن شاب لله درّه من بين شباب حتى الطرقات باتت تهوى طيب عودتهم، وتسأل الناس عنهم أين ولّوا وما عادوا يراقصون ابتسامة يرسمونها على ثغور إخوتهم، ودموع القبور تنهمر فرحًا بما ضمت من رجولة بحق.

 

فاجعل رباه كلماتي هذي بلسمًا لأم ماهر، لقلب أم ذاك الشاب الذي نشر طيب مروءته وعطره نخوته، ومضى ليلحق إخوانًا سبقوه ليدقوا بأكفهم الطاهرة أبواب الجنان يجولون بها، وعليهم سندس من إستبرق خضر، وتحفهم الملائكة تكلؤهم.

 

تستجمع الأم قواها بين الدهشة والصبر لتروي قصة ابنها، إذ راوده حلم مذ كان صغيرًا، وتكررت هذي الرؤيا حتى باتت حقًا، إذ كان ابن التاسعة ربيعًا وكان يعشق ترب بلده، ورأى أنهم يضعونه في صندوق بعد أن لفوه بقماش أبيض كبياض ثلج وطنه، ويتفاجأ أنهم يفعلون ذلك رغم أنه ليس بميت، فكيف يدثّرونه، ويضعونه في نعش مع أنهم لم يقبلوا أن يعطوه بندقية يواجه به عدو بني قومه، ثم يكرر سؤاله لأمه، كيف يفعلون بي ذلك مع أن الحياة لم تفارقني، لتجد الأم جوابًا لسؤاله هذا بعد استشهاده، فهو حي وحي وحي، ولم يمت، وسيبقى حيًا في ذاكرتنا ما حيينا، فإذا بحلمه يصبح حقيقة، ويوارى التراب عليه عشية يوم الخميس ليلقى الله في موعد اجتماع ملائكة رحمته يوم الجمعة، وهو يأمرهم أن يقسّموا الأرزاق بين العباد، وأن يكلأوا البلاد بالحفظ والرعاية.

 

فإذا به في يوم 23 شباط 2012م، يصل إلى مسامعه نبأ اعتقال ثماني نسوة من حرائر داريا، إثر اعتصامهن أمام المحكمة للمطالبة بأبنائهن المعتقلين، فما وسعه أرض بما سمع، وجاء على عجل بين الزحام، والدم يخفق في شرايينه توقًا إلى الشهادة، وعلى محياه ملحمة مروءة كما يقول صديقه، ومن عروقه خرجت للنور قصة لن ننساها ما حيينا.

 

صرخ وبأعلى صوته في بني قومه، أن أوقفوا تجارتكم، فلن تبور أو تكسد، وأغلقوا محالكم التجارية، وهلموا لتنادوا معي ونستنجد الضمائر الحية، علّ النخوة ترتد لرجالات داريا، إذ ألم بهم خطب جلل، فأعراضهم قد باتت على المحك، وحرائرهم قد ضربن في الشارع وعلى مرأى منهم، فهل من عاقل يسمع، وهل من صاحب مروءة يشاركنا نخوتنا؟

 

ثم جهز مع رفاق دربه كمينًا لقوى الأمن التي عاثت يومها فسادًا في داريا، ولتهز أصوات الاشتباكات يومها الصمت الذي حلّ ببلدتنا، بل وليستفيق النيام يومها على خبر استشهاد مصباح داريا، ابن التاسعة عشر ربيعًا، أتم شهادته الثانوية، ولكنه نال شرف الشهادة قبل شهادته الجامعية، إذ رحل ليلقى المولى وحقق له أمنيته بأن يلقاه دونما أن يلقى سجانه في أي فرع أمني، فكان يرى استشهاده أمنية دعا الله أن يقدّس سر أمنيته هذي، ويحققها له، ليرحل ويترك سيرته العطرة يفوح مسكها بين سامعيها، كما كان ظله الخفيف يطوف في أحياء اليتامى والمساكين، ويداعب عبوس وجوههم القمطريرة، لتمتزج ابتسامته مع مشروع ابتسامتهم فيضفيان علينا الآن ظلًا وأملًا نرنو له ما حيينا، فلم يكن يعيش لذاته، بل كان يتتبع خطا المحتاجين ومن لا يجدون مكانًا لهم تحت شمس بلادي، ليروي عطشهم، ويداوي جراحهم، ويسد رمقهم، مع شحنات كبيرة من طاقة يمدها ويستمدها من إخوته وأصدقائه، فرغيف خبز كان مشروعًا كبيرًا، يُعقد لأجله اجتماعات ليقرر طريقة اقتسامه لقيمات وكأن الواحدة تخالها قصعة ممتلئة طاقة وقوة، ودنانير جيبه يحولها إلى قروش توزع ملفوفة مع دعاء لصاحبه أن يجعل هذه الدريهمات في يده كنوزًا، وجلسات صحبه في حلقات المسجد مع أستاذهم كانت تشع صدقًا، وترسم منهجًا لدرب قويم لا تحرف رياح الطغاة مساره، فكأنه لحصاد النصر قد خُلق، أو ربما لدروب الخلد قد نُذر، ليطفئ لهيب شوق إخوته بسلوكهم دربه، وتناولهم حتى ما أحب من طيب الطعام، وتبادلهم ثيابه التي تقطر عطر دمه، ومسك مسلكه، بل ورونقًا يتألقون به.

 

فهل يُلام ابن المروءة ماهر إذ استجاب لصوت الحق، فكان له من اسمه نصيب؟.

 

وين باعت ابنك ؟!

بكرة برجعوه محمَّل.. !!

مقالات متعلقة

فكر وأدب

المزيد من فكر وأدب