عنب بلدي – العدد 138 – الأحد 12/10/2014
منذ أمد بعيد والبشرية تسعى للوصول إلى الحقيقة المطلقة، وتخوض صراعها المحموم في سبيل البحث عنها أو ادعائها وإعلائها، ويُروى أن تلك الحقيقة متوارية في عليائها محتجبة عن الأنظار، وتقول الأساطير أنها تتجلى في صور عديدة ومناسبات كثيرة، وأنها تضحك كلما أشارت إلى غيرها الأصابع أو أخطأتها الخناجر أو دافعت عنها الأسلحة.
وعلى الرغم من أنه بنظرة سريعة على تاريخ «الحقائق» في مختلف المجالات العلمية والثقافية والتاريخية وغيرها سيظهر أنه قد تم نقض ونقد معظم المسلّمات غير القابلة للطعن في حينها، مازال الإنسان متمسكًا بما يعتبره حقًا ومازال يصوّب الأسلحة بوجه من لا يؤمن بما يعتبره صوابًا.
وفي هذه المفارقة ما يجعل البعض يسخر من أن الإنسان لا يفكر بعقله ويعجب من أنه غير منصف وغير موضوعي وبعيد عن الحياد، فهل في الأمر ما يستحق العجب؟
ظنّ القدماء بأن التعصب أمر طارئ على العقل البشري معتقدين بأن العقل ميال للحياد والموضوعية بطبعه، فإن رأوا أحدًا يتعصب لرأيه غضبوا عليه ولعنوه، دون أن يدركوا أنهم هم أيضًا متعصبون مثله، بدرجة أو أخرى.
والأبحاث الحديثة تشير إلى أن التعصب صفة مرتبطة بالعقل البشري يتشربها مع معارفه وأن الحياد طارئ عليه، وهنا يصح الاستشهاد بقول الشاعر:
تعجبين من سقمي .. صحتي هي العجب!
العقل البشري ليس كيانًا مستقلًا بمقدوره أن يطلق أحكامًا على الأشياء من تلقاء نفسه دون قياسها بمعارف ومعلومات سابقة، وإنما يعمل ويفكر استنادًا على المقاييس والمعلومات المختزنة عنده، ومن الصعب أن يفكر العقل على أساس غير مألوف.
لذلك من الطبيعي أن يتعصب الإنسان لرأيه، وأن يخضع الكون للمقاييس التي اعتاد عليها في حياته، وأن يؤمن بأن هذه المقاييس النسبية خالدة ومطلقة و»مقدسة»، وأن يعتبر قانون عشيرته هو قانون الطبيعة، وجغرافية منطقته هي جغرافيا الكون، فالأمر الذي يتكرر يومًا بعد يوم يدفع العقل إلى تعميمه والاعتقاد بأنه قانون ينطبق على كل جزء في الكون، وهذا الاعتقاد آت من العادة وليس من الحقيقة ذاتها
وفي هذا يقول إينشتاين «ليس هناك بديهيات ثابتة، وإنما هي عادات فكرية».
فلا عجب أن يكون العقل البشري والإنسان عمومًا غير موضوعي وميال إلى عدم الإنصاف، ولكن لا بد له أن يدرك ذلك وأن يتعلم من أخطائه.
هذا العصر الذي دخلناه لم يبق فيه مكان للبديهيات المطلقة أو المقاييس العامة، وليس من الممكن أن نقول عن شيء أنه غير معقول لمجرد أننا نراه مختلفًا عن المألوف ومفارقًا للمعروف، فالتجارب علمتنا أن كل شيء مهما بدا في نظرنا سخيفًا فإنه قد يكون صحيحًا في يوم من الأيام عندما تتبدل المقاييس الفكرية التي اعتاد عليها الناس في تفكيرهم، فالإنسان البسيط الذي فتح عينيه على الدنيا وهي منبسطة مستوية تطلع شمسها من المشرق وتغيب في المغرب، لن يكون من السهل عليه أن يقتنع بكلام عالم عن كروية الأرض وسيعنفه ويسفه رأيه بالطبع!
يقول وليم جيمس «إن الحقيقة ليست إلا فرضية يفترضها الإنسان كي يستعين بها في حل مشكلات الحياة، فالحقيقة المطلقة غير موجودة، وإن هي وجدت فالعقل لا يفهمها أو لعله لا يريد أن يفهمها لأنها لا تنفعه في الحياة، إن الإنسان بحاجة إلى الحقيقة النسبية التي تساعده في حل مشكلاته الراهنة، وكثيرًا ما يكون الوهم أنفع له من الحقيقة المطلقة المعلقة في الفراغ».
سعى كثير من البشر ومنهم الفلاسفة والمفكرون والعلماء عبر التاريخ وما زالوا يفعلون، للوصول إلى الحقيقة المطلقة، هناك من بدأ مشوار البحث عنها وادّعى وهو في منتصف الطريق أنه وجدها وأخذ يدعو الناس إليها، وهناك من ادعى أنه وجدها (أحيانًا دون أن يقرأ حرفًا واحدًا) ثم راح يجز الرؤوس ويقطع الرقاب مدعيًا أن الله معه وفي عمامته.
وفي حين ترى كاتبًا أو فيلسوفًا أو عالمًا ما يدلي «بالبراهين القاطعة» لتأييد رأيه بموضوع معين، تجد نقيضه من نوع آخر يدلي «بالبراهين القاطعة» أيضًا لتأييد رأي معاكس، وكل يعتقد جازمًا بأن الحقيقة المطلقة معه، والمفارقة أنهم أحيانًا يكون بينهما ارتباط كعلاقة الأصل بالنيغاتيف، كل شيء مثل الآخر ولكنه فقط باللون المعاكس، وكلٌّ يدعي وصلًا بليلى … وليلى لا تقر لهم بذاكا.
ومصيبة هذا الادعاء أن ضرره ليس محصورًا بمن يدعيه، وإنما يعدو ليجر الكراهية للآخر المختلف، ومن ثم استعداءه والعدوان عليه، وخطره ليس متوقفًا على أنه غير ذي نفع فحسب وإنما هو مصدر للعنف
المنطق الحديث أنكر وجود الحقيقة المطلقة علميًا ونظريًا وقد بدأت هذه الفكرة تفقد قيمتها تدريجيًا ليحل محلها سلطان النسبية، فما هو حق في نظرك قد يكون صوابًا في نظر الآخرين، وما تراه جميلًا اليوم قد تستقبحه غدًا، وهذا الإدراك لطبيعة العقل عبر تسليط ضوء الوعي يدعو للتفاؤل بمستقبل أكثر رحابة واتساعًا وأرض أكثر تسامحًا.
أخيرًا: عندما ينعدم الشعور بامتلاك الحقيقة تنعدم الحروب المدافعة عنها.