حذام زهور عدي
ربما أصاب القراء الملل من الحديث عن الاحتلالات الدولية المنوعة لسوريا، وعن تقديرات الصراع فيما بينها، وبخاصة عندما أصبح واضحًا وملموسًا ليس من خلال الرسائل المباشرة وغير المباشرة فقط، وإنما من خلال شلال الدم السوري المستمر، والذي لا يريد أحد من المتصارعين إيقافه وكأن الشعب السوري بفئاته العمرية المختلفة وتنوعه الفئوي والنوعي، عليه أن يحل بدمائه مشكلات العالم كله.
صحيح أن الولي الفقيه وأتباعه هم من فتحوا الباب وشرَعوه واستقدموا الدول الأخرى إلى الأرض السورية، لكن الأمر فيما بعد اتسع لدرجة لم يعد باستطاعتهم قفله وكتابة النهاية له، حتى لو أرادوا ذلك، ويبدو أنهم لا يريدون.
في سوريا تتصارع سرًا وعلنًا خمس دول رئيسية إما على السيطرة والهيمنة، أو على اقتطاع قسمٍ منها على الأقل، فعلى الأرض السورية: الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الروسي، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الجمهورية التركية، إسرائيل، عدا عن التدخلات غير المباشرة، والميليشيات التي جاءت إلى المولد السوري من كل حدب وصوب، لتنفذ أجندة هذه الدولة أو تلك، وتلوغ بالدماء السورية.
بعد تجاوز السطح المعلن، وبالعمق الذي تسمح المعلومات المسربة المحدودة به، يتساءل السوري، ماذا يريد هؤلاء جميعًا من سوريا؟ ولماذا يتقاتلون على أرضنا؟ أجوبة متعددة تتقافز أمامه، أهمها أن كل واحد منهم يريد حصته من البقرة التي وقعت بين سكاكينهم، لكن كما يبدو من استحالة التوصل إلى قسمة غير ضيزى بينهم، وخروج الشعب السوري صاحب الكعكة منها ملفوفًا بدمائه وكوارثه، أن هناك أسبابًا أخرى مرتبطة جدليًا مع ذاك السبب الرئيسي الطافي للعيان، أشد تأثيرًا في استمرار المقتلة السورية.
فمن الأسباب غير المرئية تمامًا، الأوضاع الداخلية لكل دولة، وكلٌ منها يريد حلَ المشاكل التي يصنعها نظامه مع شعبه من خلال التوجه للخارج، وهي إحدى القواعد المعروفة للأنظمة الفاشلة، ونظام الولي الفقيه -القروسطي- المزخرف بتلاوين حداثية، يمكن لمن يحكها قليلًا بإصبعه أن يكتشف زيفها، من أكثر تلك الأنظمة وضوحًا في هذا الأمر، ولا سيما بعد مظاهرات الفقراء في عدد لا يستهان به من المدن الإيرانية، والذين رفعوا شعار “اخرجوا من سوريا وأطعمونا”، وقد اتضح بما لا يدعو للشك أن ذلك النظام يتلاعب بالعواطف العنصرية والتاريخية لشعبه، فحينًا يتحدث عن التاريخ الفارسي والإمبراطورية الساسانية، وطورًا عن تارات الحسين وآل البيت، مهللًا للانتصارات التي يحققها شعار تصدير الثورة، علّ ذلك يضمن سلطته إلى الأبد، ويكون بديلًا مشروعًا للقمة العيش وحق الحياة الكريمة لذلك الشعب المسكين.
سوريا أفضل الوسائل لتنفيذ تلك الاستراتيجية، ولذا عندما بدأت طبخة التقاسم تنضج، وشعر الملالي أنهم سيفقدون أحد أعمدة سياستهم تلك، عمدوا للهروب إلى الأمام من خلال ادعائهم القديم المحدث دومًا بالقدرة على مواجهة إسرائيل والانتصار للقدس والأقصى ورد الهجمات الإسرائيلية المذلة على سوريا، وأنهم وحدهم الذين يملكون القوة والهدف للقيام بذلك، والذي تعجز الحكومات العربية مجتمعة عن تحقيقه. ولو أن النظام الإيراني كان صادقًا في ادعائه لصفّق الشعب السوري له، ولكنها الشعارات التي ذُبح بها الشعب الأهم في معادلة المقاومة والممانعة.
إن سياسة الهروب إلى خلط الأوراق لإطالة زمن المقتلة السورية هي من أهم خصائص نظام الولي الفقيه وأهم نتائجه.
وليست سياسة بوتين الإمبراطور الأبدي للاتحاد الروسي بمنأى عن ذلك، فبالرغم من ظهوره في مؤتمراته ولقاءاته كلها بمظهر من يريد جلب السلام والاستقرار للشعب السوري، إلا أن ممارساته كلها على الأرض السورية تحقق سياسة الهروب من المشاكل الاقتصادية التي وضع شعبه بها، وسبّبها نظام الفساد والاستبداد والمافيات الذي يرأسه، وأي هروب أفضل من أن توضع الدولة في حالة حروب لا تنتهي، الورقة الضامنة لانتخابه للأبد، ولماذا يجب أن تنتهي الحروب طالما أنها تحقق أهداف نظامه؟
وما يتكشف اليوم من وضع نتنياهو الداخلي ورفع المحاكم الإسرائيلية الدعوى عليه بتهمة الفساد، وتزايد المعارضة الإسرائيلية لسياسة العنجهية والعنترية التي يمارسها، والخوف من تحول هروبه السياسي إلى حروب حقيقية تحقق ما يريده الطرفان الإسرائيلي وملالي إيران من تفريغ مشاكلهم بها، كل ذلك يتطلب استمرار المقتلة السورية.
أما تركيا فموضوع الانقلاب الفاشل والحصار الأمريكي والأوروبي السياسي والإعلامي على أردوغان وازدياد المعارضة الداخلية ومحاولات الزعزعة الاقتصادية، وسياسة انتهاز الفرص عند حزب العمال الكردستاني التركي الذي يهدد وحدة تركيا وأمنها القومي، كل ذلك يعالج من خلال الهروب إلى المأساة السورية.
وعلى الرغم من ظهور الولايات المتحدة بمظهر التراجع والصمت، والمراوحة بالمكان، إلا أن ترامب ومؤسساته لا يضعون 12 قاعدة عسكرية تحيط بالثروة السورية من كل جانب، وتحمي ظهر الثروة العراقية المستولى عليها، من أجل مصالح نظامهم الممعن بالسمات الإمبريالية فقط، وإنما أيضًا من أجل أن تكون طريقًا للهروب عندما تتأزم أموره مع فضائحه.
أوضاع تلك الأنظمة جميعها لا تسمح بتسريع اتفاق فيما بينهم لوضع نهاية للمعضلة السورية، أيًا تكن تلك النهاية، والتي بكل الأحوال لن تُحقق الأهداف التي خرجت جموع الشعب السوري من أجلها، بل قد تشهد المنطقة تصعيدًا لخلافاتها من خلال افتعال حروب أخرى وقودها الدائم الأرض السورية وما تبقى من الشعب السوري، كلٌ يريد أن يعود بأكاليل النصر لينال الأبدية في سلطته، ويا له من نصر على الجثث السورية.
ماذا يمكن للشعب السوري أن يفعله أمام تلك الغيلان؟
طالما قدّم تاريخ الاستراتيجيات العسكرية شواهد على فئة قليلة العدد أوالعدة واجهت وانتصرت على من هم ذوو بأس وقوة، وشواهد أكثر دقة على أن الكتلة المحاصرة إن كانت ذات حجم كبير تستطيع أن تجد حلولًا لفك حصارها وتحقيق الانتصار، صحيح وواقعي أن حصار المصالح الدولية للشعب السوري هو حصارٌ محكم الإغلاق، عسكريًا وإعلاميًا، إلا أن الأمل بيقظة سورية تصنع صخرة الكتلة ذات اليد الواحدة، العصية على الهدم، والتي تفرز القيادة القادرة على وضع خطط فك الحصارات المحيطة، وإعادة المحتلين لحل مشاكل شعوبهم وأنظمتهم في مكانها الحقيقي، والبرهنة أن لسوريا شعبًا يحميها.
فهل مثل ذلك الأمل مايزال في خانة الممكنات!
عجلة العصر تدعس أي شعبٍ يتوقف أو يتراجع، والتاريخ لا يرحم الضعفاء المنهزمين.