تجاوزت الانتهاكات القانونية والإنسانية في سوريا حدود “جرائم الحرب” التي عرفها العالم عبر سلسلة طويلة من النزاعات التاريخية والمعاصرة، والتي صدحت خلالها الأصوات الحقوقية المطالبة بجعل “حرمة” للميت وتجنب تعذيب الأسرى، المدنيين منهم وحتى العسكريين.
بناء على ذلك توجه المجتمع الدولي إلى تبني قرارات وسن قوانين وفرض عقوبات لردع تلك التجاوزات، إلا أنه لم يستطع كبحها في رقعة من الأرض خرجت عن سيطرة القوانين البشرية، على حساب مصالح دولية واعتبارات سياسية أعطت لأطراف النزاع، جماعات كانوا أو أفرادًا، هامشًا للنزعات النفسية من أجل الانتقام والثأر من ميت لم يشتف غليل قاتله إلا بانتزاع قلبه وتقطيع جسده وأحيانًا حرقه.
“معاملة القتلى” في القانون الدولي الإنساني
بعد أربعة أعوام على انتهاء الحرب العالمية الثانية، استفاق المجتمع الدولي على ضرورة حماية حقوق الإنسان في أوقات الحرب، بعد انتهاكات موثقة مازال صداها حيًا من زمن النازيين وحتى اليوم، والتي تمخضت عنها معاهدات واتفاقيات دولية أهمها “اتفاقية جنيف”.
في آب عام 1949 أقر المجتمع الدولي اتفاقية جنيف، بدعوة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والتي كان القصد منها حماية المدنيين في وقت الحرب، تلك المعاهدة المؤلفة من 159 مادة، اعتبرت جزءًا من القانون الإنساني والجنائي الدولي، بحيث تكون مهمتها سد الثغرات فيه وتعريف الأطراف المتنازعة بالمتاح وغير المتاح لها أثناء الاشتباك المسلح.
مواد عدة داخل هذه الاتفاقية ركزت على مسألة حماية حقوق قتلى الحرب، من منطلق أن للميت “حرمة” يجب أن تراعى خارج إطار الصراعات والنزعات الانتقامية بين الأطراف المتحاربة، وبموجب تلك المواد حُرّم معاملة القتلى بطريقة “غير لائقة”، بما فيها التقاط الصور معهم وتقطيع أجسادهم وحرقها، مشددة على ضرورة دفن الميت ضمن الأعراف.
وتنص المادة “130” من اتفاقية جنيف أنه على السلطات الفاعلة أن تتحقق من أن المعتقلين الذين يتوفون أثناء الاعتقال يدفنون باحترام، وإذا أمكن طبقًا لشعائر دينهم، وأن مقابرهم تحترم وتصان بشكل مناسب، وتميز بطريقة تمكّن من الاستدلال عليها دائمًا.
كما تنص على ضرورة أن يدفن المعتقلون المتوفون في مقابر فردية، إلا إذا اقتضت ظروف قهرية استخدام مقابر جماعية، ولا يجوز التمثيل بالجثث وأشلائها، كما يمنع حرقها إلا لأسباب صحية حتمية أو إذا جاء ذلك تنفيذًا لرغبة الميت الصريحة.
وفي حالة حرق الجثث يتوجب توضيح مع ذكر الأسباب التي دعت إلى ذلك في شهادة وفاة الشخص المقتول، وتحتفظ السلطات الحاجزة بالرماد، وترسله بأسرع ما يمكن إلى أقارب المتوفى إذا طلبوا ذلك.
أشهر حالات التمثيل بالجثث في سوريا
فرضت مشاهد التمثيل بالجثث وتعذيب الأسرى حتى الموت نفسها خلال سبع سنوات من الإفلات والانفلات الأمني في سوريا، وباتت أحد أبشع أنواع الانتهاكات بحق البشرية حين أصبحت متاحة بسهولة أمام أطراف النزاع، جماعات وأفراد، ضمن هامش أصبح أقرب إلى الغابة.
مسألة “التمثيل بالجثث” عادت إلى الطرح مؤخرًا بعد انتشار مقاطع مصورة لتمثيل مقاتلين من “الجيش الحر” بجثة المقاتلة الكردية بارين كوباني، القضية التي أثارت جدلًا واسعًا في سوريا، لتقابلها تسجيلات قديمة عن إعدام “وحدات حماية الشعب” (الكردية) لـ 140 مقاتلًا من “الجيش الحر” والاحتفال بجثثهم في شوارع عفرين، وتسجيلات أخرى لاعتداء مقاتلي “الوحدات” على مدنيين على أساس قومي، ولإعدام شخص مجهول الهوية في دير الزور برشاش “دوشكا”.
في حين انتشرت مقاطع عدة لتمثيل النظام السوري بجثث المعتقلين في سجونه وتعذيبهم حتى الموت، ولعل أشهرها تسريبات “قيصر”، المصور السابق في الشرطة العسكرية السورية، الذي فر من سوريا عام 2013 وبحوزته 55 ألف صورة لجثث أشخاص تعرضوا للتعذيب في سجون نظام الأسد بين عامي 2011 و2013.
هذ الصور اعتبرتها منظمات حقوقية، ومن بينها منظمة “هيومن رايتس ووتش”، دليلًا دامغًا على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
أما انتهاكات تنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي تُجمع دول العالم على اعتباره “متطرفًا”، كانت بقطع رؤوس الجثث ونشرها على عواميد في المناطق التي يسيطر عليها، من باب جعلهم “عبرة لمن لم يعتبر بعد”.
لا رغبة بدخول مرحلة المحاسبة الدولية
الحقوقي إبراهيم علبي، مدير “البرنامج السوري للتطوير القانوني” قال لعنب بلدي إن سوء معاملة قتلى الحرب مُجرّم في القانون الإنساني الدولي، سواء كان القتلى مدنيين أو عسكريين.
وأضاف أن للميت حقوقًا دولية بعدم إهانته بمختلف الطرق، ومن بين الحقوق دفنه ضمن الأعراف السائدة وعدم التمثيل بجثته أو الاستهزاء بموته.
“استخدام القانون الإنساني الدولي لا يكون من أجل المحاسبة، مهمته إعطاء الشرعية لجهات معينة وهو أداة لإدانة المجرم، وقد يستخدم كوسيلة للضغط” يقول علبي.
أما عن محاسبة المسؤولين، أوضح علبي أنها صعبة في المرحلة الحالية التي يسود فيها توثيق الانتهاكات فقط، مشيرًا إلى أن الصعوبة تتعلق بعرقلة تشكيل محكمة جنايات خاصة بسوريا، لاعتبارات سياسية، في وقت لا تتمتع فيه محكمة الجنايات الدولية بشرعية لفرض سلطتها على سوريا دون تفويض رسمي.
ومع ذلك شهدت بعض المحاكم الأوروبية قضايا عدة تمت فيها محاسبة متورطين بجرائم ضد الإنسانية في سوريا، ومنهم الجندي السابق في جيش النظام محمد عبد الله، الذي حكم في السويد بالسجن ثمانية أشهر لانتهاكه “الكرامة الشخصية للقتلى”، بعدما انتشرت صورة له وهو يضع قدميه على جثثهم.
كما حكمت محكمة سويدية، عام 2015، على مقاتل سوري في صفوف المعارضة بالسجن خمس سنوات، بتهم “جرائم حرب” بعد انتشار مقاطع مصورة له يعذب فيها الأسرى ويطلق النار على أحدهم.
وبهذا الصدد، قال الحقوقي إبراهيم علبي إن المحاكمات الفردية لأشخاص خارج بلدهم تتم وفق قوانين الدولة التي تحاكمهم، إذ غالبًا ما تعتمد تلك الدول على مبدأ الاختصاص القضائي العالمي، والذي يسمح للمحاكم الوطنية بالتحقيق في جرائم دولية معينة.
أما عن الأدلة، قال علبي إن القانون الإنساني الدولي يأخذ جميع الأدلة بعين الاعتبار، سواء كانت شهادة أشخاص أو صورًا أو مقاطع فيديو، إلا أن المحكمة المختصة بالمحاسبة، محلية كانت أو دولية، تأخذ الأدلة التي تندرج ضمن معاييرها الخاصة.
وختم علبي حديثه بقوله إن “القانون موجود ولكن الرغبة السياسية بالمحاسبة غير موجودة”، وتابع “المحاسبة معرقلة بشكل واضح ولكن واجبنا أن نستمر في توثيق الانتهاكات ضمن القوانين والأعراف الدولية”.
–