عفرين.. في ذيول المسألة الشرقية

  • 2018/02/11
  • 1:41 ص
حذام زهور عدي

حذام زهور عدي

حذام زهور عدي

كان السوريون ضحايا الحل الذي توصلت إليه الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، عندما تقاسمت هذه الدول الإرث العثماني، إرث الرجل المريض، كما كانوا يسمون الخلافة العثمانية، فيما بات يعرف بـ “المسألة الشرقية”.

خلال تقاسمهم لذلك الإرث، رسموا الخرائط كما تقتضيها مصالحهم، وهجروا شعوبًا وتبادلوا الأراضي وتلاعبوا بمصائر بشرية وهم يتضاحكون كأن الآلام البشرية لا تعني لهم شيئًا.

واليوم تعود المسألة الشرقية ثانية مع الثورة السورية لتبيع تلك الدول، وارثة الاستعمار القديم، الأوهام لأصحاب القضايا التي تركتها معلقة دون حل فيما مضى، وتبشرهم بأنها اليوم ستجد الحل الذي يحقق أحلامهم ويُحول الأمنيات إلى وقائع.

من غير المفيد مناقشة تفاصيل مخططات الهيمنة وطرق تنفيذها من الدول الكبرى حينئذٍ في مقال محدود، لكن الدارس لتاريخ القرن التاسع عشر والعشرين سيجد الأجوبة على كثير مما يقع اليوم من سياسات تبدو أحيانًا عصيةً على الفهم، والمسألة الكردية اليوم هي تتمة للمسألة الشرقية وتصفية لها.

عندما خرجت النخبة الكردية من مولد “معاهدات تقاسم الإرث العثماني” دون حمّص، كما يقال، ومع الظروف المستجدة للمنطقة وأصوات الإيديولوجيات القومية الملعلعة، بدأت بالسير أيضًا في الطريق نفسه الذي سار فيه إخوتها العرب والأتراك، ومع ظهور إسرائيل وتبدل ظروف المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية جهدت سياسات نظام المافيا العالمية بعرقلة حركة النهوض العربي وحركات التحرر العالمية، وكانت وسيلتها المثلى إيجاد نزاعات بينية تمتص أي إمكانية للتنمية والتطور، في هذه الأجواء العالمية تحاول حركات النهوض لشعوب المنطقة تحقيق مطالبها المشروعة في حياة كريمة تتناسب والعصر الحديث، وفي هذه الأجواء تضع المافيا العالمية مكبرات على أفضل حالة تشعل من خلالها حروبًا بينية لتكون ممرًا للهيمنة على المنطقة، وهكذا من السهل بيع الأحلام لفئة لتقاتل إخوة لها مقابل الطاعة التامة، وتتعقد المشكلة عندما تتراكب الأمور وتعمى قيادة حزب فاشي عن رؤية الماضي وظروف الحاضر والمستقبل، وتوقع شعبها في فخ العداوة والكراهية لأبناء الوطن الواحد.

لقد كان آخر ما حسبه الثوار السوريون عندما بدأت الثورة أن ينفصل النضال الكردي المشروع عن ثورتهم، بل كانوا يعتقدون أن أقدام السوريين جميعًا في فلقة التآمر الدولي، وأن الفساد والاستبداد والهيمنة العالمية لاتفرق بين قدم سورية وأخرى.

لكنهم فوجئوا بتنظيم ستاليني فاشي يصادر آراء الكرد المختلفين عنه، يهجر من يريد ويقتل ويخطف الأطفال والشباب ليجبرهم على القتال، مستقويًا بلوبياته الغربية التي أصبحت تفاخر بتنسيقها مع عدو الأمة الأزلي الصهيوني، ويعتمدها وسيطته لتعميق التحالف الدولي الذي يُشجعه على التعامل مع المكونات السورية الأخرى تعامل العدو اللدود.

أجل لقد آن الأوان لإحياء المسألة الشرقية من خلال قيادة حزب العمال الكردستاني، واستخدامه كأداة لتفتيت المنطقة بعد أن استكثروا عليها القِطع التي فصلوها بمعاهدات سابقة، وقد ساعدت عوامل ثلاثة المافيا الدولية على نجاحها في هذا الاحتواء والتجييش.

أولها: ما حدث أواخر ستينيات القرن الماضي وامتد عقودًا دون أن يعالجه النظام الأسدي المعالجة الإنسانية والوطنية، ترك شعورًا بمظلومية استغلها أكبر استغلال من أراد اللعب بالمنطقة لتحقيق مصالحه الخاصة، بالرغم من أن أيًا من المعاهدات الدولية السابقة لم تذكر الأرض السورية ضمن وضع المسألة الكردية ولا حتى في كتابات قائد حزب العمال نفسه.

ثانيها: الوضع الكردي العراقي الذي استطاع أن يربح منطقة آمنة خلال عشر سنوات من حصار العراق، وينعم بالاستقرار، بعدما وقع صدام في فخ الكويت وتورط بالسلاح الكيماوي في حلبجة، وكان قبلًا قد ربح حكمًا ذاتيًا تطور بعد الدخول الأمريكي للعراق إلى نوع من الاستقلال تابعٍ للحكومة المركزية في بغداد وفق نظامٍ يشبه الكونفيدرالية، ما أنعش إمكانية تحقيق آمال القوميين الكرد في المناطق والدول الأخرى التي يوجدون فيها.

ثالثها: الوضع القلق لكرد تركيا وخاصة في مناطق الحدود القريبة من الأراضي السورية، والمعروف أن كرد شرقي تركيا وجنوبها قاموا بثورات متعددة منذ أوائل القرن العشرين نتيجة تهميش النظام العثماني لهم من جهة، واستغلالهم ليكونوا عسكرًا واقيًا للعثمانيين من الروس وحلفائهم وكل من كانوا يقاتلونه، ثم استمرت هذه السياسة أيام الجمهوريين الأتراك مع محاولة لتتريكهم، ما غذى النزعة القومية (كما عند العرب)، وكثرت ثوراتهم التي قَمعها الجيش التركي بعنف غير مسبوق ما سبب هجرات متلاحقة للدول ذات الحدود القريبة من أماكن مدنهم وقراهم. وعندما حان وقت اقتسام الاستعمار “الإرث العثماني” ورسمت الخرائط في لوزان وجنيف وغيرهما، وحسب حساب الشعب الكردي أولًا ثم تجاهلته الدول بحسب مصالحها، شعرت النخبة الكردية خاصة بالإحباط، وبدأت بتنظيم شعبها وتحضيره لنضال طويل من أجل التوصل إلى ما يستحقه مثل أي شعب في هذا العالم… لكن العقل الفاشي لحزب العمال الكردستاني وفرعه السوري خطف القضية وحوّل الأمر إلى نزاع بيني مع إخوة الوطن وها هي عفرين تدفع الثمن.

ما يدفع للشك في نوايا وسلوك الفرع السوري لهذا الحزب، أنه لم يتعظ بتخلي الدعم الدولي عن البرزاني العراقي عندما أعلن استقلاله وتمدده لأماكن متنازع عليها، ولم يتنبه للموقف الدولي أيضًا تجاه ما يحدث بعفرين بالرغم من دفعهم إياه لاستغلال المأساة السورية للتمدد واقتطاع قسم أكبر من الأرض السورية، وإذا كان السوريون مايزالون يضعون عفرين في قلوبهم كحلب والرقة وإدلب والغوطة وبقية المدن السورية، فإنهم يأملون أن يسمعوا صوتًا كرديًا حرًا عاليًا يعلن أن الشعب الكردي مايزال مع الثورة السورية وأن المصائر واحدة للمكونات السورية جميعها وأن لا حل سوى الحوار المنطلق من أرضية وطنية تؤمن بالتعددية والمواطنة والمساواة.

كما يأمل السوريون من إخوانهم الأتراك أيضًا ألا يحلوا مشاكلهم على حساب الشعب السوري المسكين وألا يورطوا أي فصيل سوري بقتال إخوة لهم من المدنيين الكرد السوريين في عفرين وغيرها، تكون نتيجته إعطاء مبررٍ للعداوة والكراهية التي يعمل الحزب العمالي الكردي عليها بدعمٍ من الأيدي القذرة صاحبة المصالح.

كما يأمل السوريون من أي فصيل سوري مسلح ألا يتورط بدماء أي سوري مدني لا يرفع البندقية في وجهه، وأن يحافظ على الأخوة السورية بل أن يدافع عنها، وألا يقع في مطب ردود الفعل على قوات صالح مسلم وحزبه عندما غدروا بالجيش الحر بحلب أو بأهالي الرقة أو حتى بأهالي عفرين نفسها، فواقع الحال واحد، وإذا أرادت شعوب منطقة الشرق الأوسط كلها تلافي الفوات الحضاري التاريخي الواقعة فيه، فعليها أن تنسق فيما بينها وتعمل كيدٍ واحدة على قدم المساواة، بهذا فقط تستقل بقرارها، وتُبعد الأطماع الخارجية عنها، وبهذا فقط تضع نهاية للمسألة الشرقية.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي