فريق التحقيقات في عنب بلدي
أعادت عمليات عفرين العسكرية الأخيرة فتح باب لم تكد وسائل الإعلام السورية تشرع في إغلاقه، فأطلّت “الكراهية” في خطابات صحفيين سوريين من جديد، وانهالت الاتهامات من مؤيدي طرفي الصراع، لتتحول صفحات وسائل التواصل الاجتماعي إلى منصّات إقصاء وتعبير عن حالة تعصّب فكري جسدتها مواقف إعلاميين وناشطين وكتّاب من مختلف أطياف المجتمع السوري.
ورغم المساعي الحثيثة التي بذلتها وسائل إعلام محلية لمحاربة “خطاب الكراهية” في الإعلام، إلا أن هذا الانضباط المهني، مايزال في حالة تذبذب حيال القضايا الحساسة، والمتغيرات الطارئة، وهو ما يستدعي وقفة جديدة، تمنع الإعلام من الانحدار مجددًا إلى مطبات نقص الخبرة، وعدم القدرة على المواءمة بين “حرية التعبير” و”المسؤولية الاجتماعية”.
صحفيون لم يلتزموا المهنية
انعكست المواقف من معركة عفرين خطابًا غير متوازن لصحفيين سوريين تخلوا عن أخلاقيات المهنة إلى تبني وجهات نظر تشكيلات وجماعات عسكرية وسياسية بمفاهيم ومصطلحات ظهرت لأول مرة، بحسب ما رصدت عنب بلدي، في وقت تحلت وسائل إعلام محلية ببعض الهدوء تجاه العملية.
فبينما تكررت مصطلحات في “فيس بوك” من صحفيين يعملون في وسائل إعلام محلية ودولية على غرار: “ثوار البطاطا”، “مرتزقة مأجورين”، “دواعش”، “سارقو دجاج”، لوسم مقاتلي “الجيش الحر” ومن يناصرهم أو من يؤمن بالثورة السورية، ظهرت الردود من مثقفين وإعلاميين على الطرف المقابل، نعتوا مقاتلي “وحدات حماية الشعب” (الكردية) ومن يناصرهم من القومية الكردية بأنهم: “ملاحدة”، “كفار”، “دواعش صفر”، “إرهابيون”، ولوّح متظاهرون باسم الرئيس العراقي السابق صدام حسين، المتهم بتنفيذ جرائم حرب ضد كرد العراق، واتخذ هؤلاء موقفًا على أساس قومي بأن هذه الأرض عربية ويجب أن تعود لأصحابها.
ولم تقتصر المواقف على إطلاق مصطلحات وصور نمطية معلبة تجاه الآخر، بل توسعت دائرتها إلى تداول تسجيلات مصورة تذكر بانتهاكات الأطراف العسكرية على الجانبين، وتطالب بأخذ الثأر دون التفريق بين مدني وعسكري.
ومن هذه التسجيلات، تمثيل مقاتلين من “الجيش الحر” بجثة المقاتلة بارين كوباني، القضية التي أثارت جدلًا واسعًا في سوريا، لتقابلها تسجيلات عن إعدام “الوحدات” لـ 140 مقاتلًا من “الجيش الحر” والاحتفال بجثثهم في شوارع عفرين، وتسجيلات أخرى لاعتداء مقاتلي “الوحدات” على مدنيين على أساس قومي، ولإعدام شخص مجهول الهوية في دير الزور برشاش “دوشكا”.
وسائل الإعلام: تأطير مدروس؟
إلا أن وسائل الإعلام المحلية، رغم مؤشرات تدل على انحيازها أو تأطيرها للأحداث بما يخدم وجهة نظر الطرف المحسوبة عليه، لم تنجر وراء سلوك الصحفيين المستقلين أو ترسيخ هذه المهاترات، ولم ترد المصطلحات سابقة الذكر حتى في معرض الرأي.
الصحف والمجلات التي لديها مكاتب في تركيا أو المحسوبة على المعارضة السورية تجاهلت أو قللت الحديث عن عمليات القوات الكردية، ورغم أنها حاولت الالتزام بـ “تغطية متوازنة” في كل قطعة خبرية على حدة، كانت مدلولات العناوين تشير إلى متابعة تقدم “الجيش الحر” المدعوم من تركيا.
واستخدمت هذه الوسائل مصطلحات تقنية للعمليات العسكرية كـ “معركة عفرين، العملية التركية، التدخل التركي في عفرين…”.
ولم تغفل الضحايا المدنيين بنيران القوات المهاجمة والانتهاكات والتقارير الأممية والحقوقية التي توثق ما يعانونه أو تتحدث عن الانتهاكات بحقهم أو تطالب بحمايتهم.
وسائل الإعلام المحسوبة على الكرد في سوريا كان إطار تغطياتها يركز على رفض التدخل التركي، مستخدمة مصطلحات أكثر جرأة وانحيازًا بنفس الوقت كـ “حرب تركيا على عفرين، الاحتلال التركي، المقاومة الكردية”.
وركزت بتغطياتها على عمليات “الوحدات” وهجماتها وقتلى القوات التركية و”الجيش الحر”، وعلى الحراك الرافض للتدخل في عفرين ومنطقة الجزيرة، وعلى الضحايا المدنيين الذين قتلوا خلال العمليات.
وحاولت، بشكل جلي، حشد الحجج والمواقف الدولية والإقليمية الرافضة للعملية، وصبغت التقارير بلون واحد هو انتقاد العملية.
“دعاية” النظام لكسب الرأي العام في عفرين
ابتعدت عفرين عن دائرة التغطية لوسائل إعلام النظام السوري في السنوات الماضية، ليكون سلوكها بالتزامن مع بدء عملية الجيش التركي “نقطة فارقة” طرحت تساؤلات عدة حول الهدف الذي يسعى من ورائه النظام.
لم تقتصر التغطية الإعلامية على النظام فقط، بل انسحبت إلى وسائل إعلام الأطراف الموالية له التابعة لـ “حزب الله” اللبناني وأخرى ممولة من الحكومة الإيرانية، بينها قناة “الميادين”، “المنار“، “الكوثر الفضائية”، “العهد” (الإيرانية)، والتي نشرت مراسليها في عفرين خلال الأيام الأولى من المعارك، وبدأت بتقديم التغطية الإخبارية بشكل يومي ومباشر.
كان المدنيون أساس التغطية، وحاولت وسائل إعلام النظام التركيزعلى الحياة اليومية للسكان المحليين والأضرارالتي لحقت بهم، إضافةً إلى تبني وجهة النظر العسكرية للمقاتلين الكرد في المنطقة من خلال نفي المعلومات التي يبثها الإعلام التركي والمصادر الناطقة باسم فصائل “الجيش الحر”.
وركزت على لقاءات خاصة مع المدنيين في الشارع، والوقوف معهم على العمليات العسكرية التي “تستهدف بشكل خاص منازل المدنيين، والتي أدت بدورها إلى تفاقم الوضع الإنساني وتدهوره”، بحسب تغطيتها.
خطوة مفاجئة قد تفهم بأنها محاولة لكسب الرأي العام إلى صفه ضد تركيا، التي يصطدم معها في أكثر من جانب، الأمر الذي يحقق له مكسبًا دون تكاليف عسكرية.
كما أراد مصلحة تمثلت بإظهار نفسه كقوة عسكرية وإدارية مناسبة لعفرين في حال انسحاب المقاتلين الكرد منها، أو التأكيد على المعلومات التي طرحت سابقًا حول اتفاق قد يفضي بدخوله إلى عفرين واستلامها، مستخدمًا مصطلحات كـ “الأهالي يقاومون في المدينة والعدوان التركي الغاشم”.
لم تنفصل الحروب عن الإعلام، بل كان الأخير ورقة أساسية فيها، من خلال حشد الرأي العام ورفع المعنويات للفرق المقاتلة على الأرض، وبقيت العلاقة بين الطرفين على أساس قوي جدًا.
ويتمثل توظيف الإعلام في الحروب في جزء منه بـ “الدعاية” التي تؤدي إلى حشد الرأي العام حول قضية بعينها من خلال المبالغة والكذب في أسلوب عرض القضية وذلك لكسب التأييد والدعم. في كتاب “السيطرة على الإعلام” لنعوم تشومسكي ذكر أن أول عملية دعائية حكومية في العصر الحديث كانت أثناء إدارة وودر ويلسون، الذي انتخب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية عام 1916، وفق برنامج انتخابي بعنوان “سلام بدون نصر”. وكان ذلك في منتصف الحرب العالمية الأولى، وفي تلك الأثناء كان المواطنون مسالمين لأقصى درجة ولم يكن هناك سبب للتورط في حرب أوروبية، بالنسبة لهم، بينما كان على إدارة ويلسون التزامات تجاه الحرب، ومن ثم كان عليها فعل شيء ما حيال هذا الأمر فقامت الإدارة بإنشاء لجنة للدعاية الحكومية أطلق عليها “لجنة كريل”. ونجحت هذه اللجنة خلال ستة أشهر بتحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين يتملكهم “التعطش للحرب والرغبة في تدمير كل ما هو ألماني وخوض الحرب وإنقاذ العالم”. |
“المهنية والإنسانية والشجاعة”
أسس تقليل “خطاب الكراهية” حيال أحداث عفرين
أعادت معركة عفرين إلى الواجهة الصدامات الإعلامية بين مؤيدي طرفي الصراع، وعادت بعض المنابر الإعلامية السورية للتحول إلى مساحات للتعبير عن آراء شخصية مجرّدة وتبادل الاتهامات، متجاوزة محاولات كانت تسعى إليها مؤخرًا، للحد من “خطاب الكراهية” في الإعلام ورفع مستويات المهنية.
وقد تكون “الصدمة” التي تعرّض لها الإعلام السوري مع بدء المعركة، حدّت من دراسة سياسات التغطية حول الأمر، وهو المطب الذي مايزال كثير من الصحفيين السوريين يحاولون النهوض منه.
إلا أن متغيرات الملف السوري وتعقيداته لا بد أن تنعكس في سلوكيات صحفيين سوريين ولدوا من رحم هذا الصراع، على الرغم من محاولات وسائل الإعلام السورية الهرب باتجاه المهنية والانضباط المبدئي في الخطاب الإعلامي، بما يخدم مصلحة الجهور المستهدف.
يرى الخبير الإعلامي المصري ياسر عبد العزيز أن المنظومة الإعلامية السورية ليست سوى انعكاس للأوضاع السائدة على الأرض وفي المجتمع، ووفق ذلك، “لا يمكن تصور توافر أداء إعلامي رشيد ومتوازن وعاقل في مواكبة أحداث عنيفة وحادة ومجنونة”.
ويذهب الصحفي اللبناني، مهند الحاج علي، إلى تأييد رأي عبد العزيز، إذ يعتبر أن “الإعلام لا يمكن أن ينأى عن الاستقطاب العام للسوريين، شعبيًا وسياسيًا، فعندما تكون هناك قوى إقليمية كبرى تدفع باتجاه التصعيد، لا يملك الاعلام السوري استقلالية مادية او إمكانات عملية لتجنب الانجراف”.
ويرى الحاج علي أن وزن تركيا، التي تقود معركة عفرين، يرتبط بشكل أساسي بالتصعيد الإعلامي الحاصل، فهي “تستضيف اليوم العدد الأكبر من اللاجئين السوريين، ولديها مفاتيح الفصائل في الداخل، علاوة على رعايتها مجالس المعارضة، فكيف نتوقع استقلالية إعلامية مع مجمل هذه القوة، وتركيا تخوض حربًا مصيرية؟ إن حاولت المؤسسة أن تكون موضوعية، فإن الأفراد سينجرفون وراء الخطاب الرسمي”.
ويربط الصحفي مهند الحاج علي بين التكوين العرقي لبعض المجموعات العسكرية السورية وتضخّم خطاب الكراهية في الإعلام، فـ “قوات سوريا الديمقراطية والفصائل التركمانية والفصائل العربية شُكّلت على أسس عرقية ومذهبية، ولا يُتوقع من خطابها أن يتحلى بحس وطني”.
غير أن ياسر عبد العزيز يلقي باللوم على وسائل الإعلام “الهشّة” التي تستجيب إلى الإسنادات العرقية لدعاوى أطراف الصراع الميداني، معتبرًا أنّ “ذلك يعود في جزء منه الى أنماط الملكية وتحكمها في السياسة التحريرية من جانب، وإلى عدم نضج الممارسة، والافتقار إلى أدلة وقواعد معيارية راسخة في الصناعة الوليدة”.
امتحان الشجاعة المهنية
تحكم “صدمة المتغيرات السريعة” أداء الإعلام السوري، وتجعله في مهب طوارئ ملف سياسي عسكري إنساني غاية في التعقيد، وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض الآليات المهنية يمكن أن تدفع الإعلام السوري بعيدًا عن تحكّم هذه المتغيرات.
الصحفي مهند الحاج علي يرى أن “الفيصل في هذه الحالة هو إنسانيتنا المتمثّلة بمهنيتنا”، معتبرًا أن الأمر يتطلّب “شجاعة” في تغطية انتهاكات الأطراف الأخرى لو وقعت، ويتم ذلك من خلال لغة واعية ونسب دقيق للمصادر، دون تعريض الصحفيين للخطر.
لكن حتى تحقيق هذا المستوى من المهنية، لا بد من التركيز على بناء أسس ومعايير الصناعة الإعلامية، وفق وجهة نظر الخبير ياسر عبد العزيز، الذي يؤكّد أن الإعلام السوري مايزال بحاجة إلى التدريب والشراكات البناءة وشراكات مع مؤسسات دولية مرموقة وناضجة.
كما يحتاج الإعلام السوري، وفق عبد العزيز، إلى آليات توثيق أدلة عالية المهنية، وهيئات مجتمعية موثوقة ومراكز بحوث تقيّم الممارسات وترصد التجاوزات.
إضافة إلى ذلك، “يتطلب الخروج إلى مرحلة المهنية الثابتة بناء نظام مساءلة مجتمعي وأخلاقي لتسليط الضوء على خطايا التحريض على الكراهية والتمييز والاختلاق والتشويه المنهجي”.
“الجمهور يبحث عن الحقيقة”
يتحكم الجمهور السوري اليوم في صناعة المحتوى الإعلامي بشكل كبير من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ونقل الأخبار على الأرض، وهو أمر يجعل من مهمة الصحفي أكثر دقّة وحاجة للتوازن، في ظل التعامل مع وجهات نظر مختلفة ورؤى ذاتية للأحداث الجارية.
ونتيجة لذلك، تحوّلت كثير من وسائل الإعلام السورية إلى خدمة رغبات الجمهور وليس أولوياته، وهو ما يعزز خلل التغطيات الحساسة، كتغطية أحداث معركة عفرين.
يعتبر ياسر عبد العزيز أن “الاستسلام لرغبات الجمهور قد يقودنا إلى تقديم مواد إباحية أو منشورات كراهية وعنصرية، وتجاهلها قد يأخذ ما ننتجه إلى المتحف”.
ويضيف “دورنا أن نفهم أولويات الجمهور ونعالجها وفق اعتبارات الصناعة، ومن بين تلك الاعتبارات المعايير التي اتفق العالم بأكمله على أنها تحظر العنف والكراهية والتمييز والاختلاق وتشويه الحقائق. علينا ألا ننجرف وراء رغبات الجمهور وألا نتجاهل أولوياته، وبموازاة ذلك علينا ان ندافع عن معايير الصناعة”.
أما الحاج علي فيشير إلى أن الجمهور، وعلى الرغم من أنه مسير بمفاتيح إعلامية وسياسية ودينية غالبًا، إلا أنه حين تحتدم المواجهات يبحث عن مؤسسات مستقلة وموضوعية في تغطيتها الحدث، خلال محاولته لفهم حقيقة ما يجري على الأرض.
ويلفت مهند الحاج علي إلى أن “الثقة بوسائل الإعلام تراكمية”، أي أن الموضوعية، وإن لم تتسم بالرواج، تُمثّل حلقة أساسية في استراتيجية بعيدة المدى لبناء المصداقية.
أربع معارك في سوريا أججت خطاب الكراهية
تنقل وسائل الإعلام السورية المحلية وقائع حرب ومعارك مركبة معقدة في سوريا، ما أسهم في تحويل الاختلاف الذي تتميز به سوريا إلى ساحة خلاف، فتبلور خطاب الكراهية على نطاق واسع ليحدث شرخًا مجتمعيًا في أكثر من واقعة.
ومع التركيز على فكرة تأجيج خطاب الكراهية بين العرب والكرد في سوريا، تعرض عنب بلدي أربع معارك عايش خلالها الجمهور السوري تعزيز ذلك الخطاب، بدءًا من الأحدث إلى الأقدم.
معركة عفرين
انطلقت معركة عفرين في 20 كانون الثاني 2018، وسيطر خلالها الجيش التركي وفصائل “الجيش الحر” على عشرات المناطق من محاور مختلفة، إلا أن “وحدات حماية الشعب” (الكردية) التي تسيطر على المنطقة، تضع العملية التي حملت اسم “غصن الزيتون” في خانة “الاحتلال” وترفضها.
ولحق المعركة تصعيد في خطاب الكراهية، بين المكون الكردي والعربي على أساس التوجهات، وكانت أبرز الحوادث التي عززت ذلك، التسجيل المصور الذي أظهر جثة مقاتلة كردية تعرضت للتمثيل بها، من قبل عناصر من “الجيش الحر”، ما أثار جدلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلق عليه عشرات من الصحفيين.
معارك الرقة
سيطرت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على مدينة الرقة بشكل كامل، في 20 تشرين الأول 2017، وشهدت المدينة مع إعلان السيطرة عليها، رفع صور الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، وعَلَم “الوحدات”، في حين غابت أعلام الفصائل العربية المشاركة في العملية، ما أثار ردود فعل غاضبة لناشطين في مواقع التواصل الاجتماعي.
وشهدت المعارك انتهاكات من قبل القوات الكردية وثقها ناشطون بحق المكون العربي في المنطقة، رغم مناشدات “قسد” للأهالي بمكوناتها العرب والكرد والتركمان والسريان، إلى العمل الموحد في سبيل إعادة إعمار وبناء المدينة وريفها.
وتغذى خطاب الكراهية في ظل إنكار “قسد” للانتهاكات التي وثقتها منظمات حقوقية.
معارك شرق الفرات في دير الزور
تزامنت المعارك في شرقي دير الزور مع معارك الرقة، وبنفس الظروف تقريبًا من ناحية الانتهاكات بحق المكونات العربية، ما انعكس على مواقع التواصل عقب كل تسجيل أو حادثة يوثقها ناشطون في المنطقة.
ورغم تعاون بعض العشائر العربية مع “الوحدات” ضد تنظيم “الدولة”، إلا أن عشائر أخرى اشتكت سوء المعاملة ووثقت انتهاكات في أكثر من منطقة خلال المعارك.
أربعة أشهر من المعارك في كوباني
أحكمت “الوحدات”، في 26 كانون الثاني 2015، السيطرة على مدينة كوباني (عين العرب) ذات الأغلبية الكردية شرقي حلب على الحدود مع تركيا، بعد نحو أربعة أشهر من معارك ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في المدينة والقرى المحيطة بها.
ودخل تنظيم الدولة إلى المدينة في آب 2014، ليطرد منها في كانون الثاني 2015، بدعم من طيران التحالف الدولي وقوات “بيشمركة” من إقليم كردستان العراق، إضافة إلى عناصر من “الجيش الحر”.
انتهاكات على نطاق واسع نسبت للقوى العسكرية خلال المعركة، قيل إنها طالت المكون العربي على وجه الخصوص، بينما اعتبر البعض أنها نفذت بحق مدنيين عرب وكرد.
واتهمت “الوحدات” حينها بمنع دخول مدنيين من المكون العربي إلى كوباني وبعض القرى المجاورة، وأنها “تقاعست” في عملية إزالة الألغام التي خلفها التنظيم من مناطق دون أخرى.
كيف ينظر الشارع السوري لدور الإعلام المحلي؟
في استطلاع للرأي أجرته عنب بلدي على موقعها الإلكتروني حول كيفية تغطية الإعلام المحلي لمعركة عفرين، ودوره في تعزيز خطاب الكراهية الذي تلا المعركة، رأى أغلب المستطلع رأيهم أن الإعلام لعب دورًا في زيادة الكراهية بين العرب والكرد.
وشارك في الاستطلاع ما يزيد عن 500 شخص، وجاءت صيغة السؤال فيه على الشكل التالي “في تغطية معركة عفرين.. إلى أي مدى أسهم الإعلام المحلي في تغذية خطاب الكراهية بين السوريين؟”.
65% من المشاركين بالاستطلاع رأوا أن الإعلام المحلي أسهم بزيادة الكراهية بين السوريين من العرب والكرد، خاصة على خلفية أحداث عفرين وما دار حولها من اتهامات بالخيانة والعنصرية والطائفية وانتهاك حقوق الإنسانية، فضلًا عن مسألة التمثيل بالجثث التي اختلفت التغطيات الإعلامية حولها.
واعتبر مظلوم خولو، أحد المشاركين بالاستطلاع، أنه بغض النظر عن دور الإعلام في تعزيز خطاب الكراهية، فإن معظم وسائل الإعلام في الشرق الأوسط مسيسة لصالح جهات معينة ولا تتمتع بمصداقية، على حد قوله.
وأضاف “كان أم لم يكن، فالإعلام في الشرق الأوسط ليس ذا مصداقية، حيث كل قناة تابعة لمصالح دول محددة، ولا يوجد إلا القليل من القنوات المحايدة والمستقلة”.
أما 35% من المستطلع رأيهم رأوا أن الإعلام المحلي لم يؤثر في تغذية خطاب الكراهية أثناء تغطيته لمعركة عفرين، على اعتبار أن “الكراهية بالأساس موجودة في حياة السوريين”.
وقال سومر نصّار في تعليقه على الاستطلاع، المنشور على صفحة عنب بلدي في “فيس بوك”، “ما ناقص كراهية الحمد لله، ما حدا طايق حدا أصلًا”.
فيما حاول البعض التنصل من الإجابة وإعطاء جواب مبطن، محملًا وسائل الإعلام المسؤولية عن تعزيز خطاب الكراهية، وعلّق إبراهيم سامو محمد على الاستطلاع بقوله “اسألوا حالكن”.
الإعلام السوري وخطر الجريمة
للأسف، لم يكن تعاطي معظم الإعلاميين والصحفيين أو حتى وسائل الإعلام غير السورية، مع موضوع التمثيل بالجثث سليمًا، لا من الناحية الأخلاقية ولا القانونية، وبدا واضحًا خلال التغطية الإخبارية، وآخرها حول المقاتلة الكردية في عفرين، الاستقطاب السياسي الكبير والانقسام المبني على خلفيات لا تتعلق بأخلاق المهنة أو التغطية الصحفية النزيهة.
وكانت وسائل الإعلام المؤيدة للعملية العسكرية في عفرين، ميالة للتخفيف من وطأة جريمة التمثيل، أو محاولة التشكيك بالوقائع والحقائق، وحتى اللعب على تفسيرات لغوية لكلمة تمثيل، ورأينا ميلًا من البعض لتكذيب الحادثة عن بكرة أبيها.
من جهة ثانية، رأينا وسائل الإعلام الرافضة للعملية العسكرية، تغطي الحادثة وتعمل على تصويرها كأنها السياق اليومي للأحداث خلال المعارك، أو كأن الانتهاكات تحصل من طرف واحد فقط.
ولم تمتنع وسائل الإعلام أو الصحفيون المواطنون عن نشر الفيديوهات لبشاعتها، أو لأن نشرها لا يتوافق مع أخلاق المهنة، ولا تحاشيًا للتسبب بمزيد من تأجيج المشاعر، فعلى العكس تمامًا، استُغلت الحادثة سياسيًا بطريقة بشعة، لا تحترم كرامة الضحايا ولا أخلاق وأعراف سكان المنطقة.
المشكلة بحد ذاتها تتعدى حوادث التمثيل أو الانتهاكات المنفردة، فالأساس والأهم يكمن في انحياز الإعلام بشكل أعمى لطرف ما، سواء على أساس عرقي أو فكري أو مناطقي، وانخراط بعض الوسائل في تغطية الانتهاكات وتبريرها أو نفيها، أو أبعد من ذلك المساهمة في الضخ الإعلامي القومي والديني الذي يرافق العمليات العسكرية.
الصيغة التي وصل إليها الإعلام السوري أو إعلام المنطقة عمومًا، لإعلام حزبي منحاز بشكل مكشوف فاضح، يزور الوقائع ولا يكترث بما يمكن أن تؤول إليه الأمور من عواقب، ويعتمد على تغطية إخبارية سلبية مشحونة بالتحريض وشيطنة الطرف الآخر، ويفسر الانقسام والتعبئة السياسية والفكرية ما آلت إليه التغطية الإعلامية، من حيث الانتقائية، فترى طرفًا يغطي فقط معارك عفرين ويركز عليها، وآخر يتجاهل التغطية من خلال التركيز على استهداف الغوطة وإدلب بغارات روسية عنيفة، وفقط قلة قليلة من الإعلاميين أو الحقوقيين، أفردت مساحات متوازنة لتغطية جميع الأحداث.
بطبيعة الحال يمكن تفهم عاملي الخوف والسلامة الشخصية، اللذين قد يدفعان إعلاميين أو حقوقيين لممارسة نوع من الرقابة الذاتية على كلماتهم، حرصًا على سلامتهم الشخصية أو سلامة عائلاتهم، أو ربما لإقامتهم في منطقة تحت سيطرة فصيل أو طرف لا يحبذ تغطيتهم، أو يتعامل مع أي رأي مختلف بعقلية أمنية.
ولا يمكن إغفال عامل “الأمن الوظيفي”، بمعنى أن أي إعلامي قد يفقد عمله فورًا في حال خرج عن التغطية السلبية، التي تقدمها الوسيلة الإعلامية العامل فيها، فترى بعض الإعلاميين، من المشهود لهم بالموضوعية والرصانة، إما فشلوا في المقاومة أو انخرطوا في تغطية إعلامية تفتقر للمهنية، وآثر بعضهم السكوت متجنبًا المشاركة.
وكما أشرت سابقًا، تمثل هذا السلوك بـ “الهروب” من المأزق بتغطية أحداث أخرى، لا تقل أهمية عما يحصل في عفرين، للتهرب من تغطية تفاصيل حساسة ومعقدة.
يمكن تجريم الإعلام أو الصحفيين كأشخاص وحتى الوسائل الإعلامية في حالات محددة، بموجب قوانين أبرزها التحريض على الإبادة الجماعية، الذي يعتبر جريمة في القانون الجنائي الدولي.
وينطبق الأمر سواء اكتمل فعل الإبادة الجماعية أم لم يكتمل، نظرًا لخطورة أي دعوات علنية إلى العنف والكراهية ضد فئات معينة، والتأثير القوي على تأجيج الفتنة داخل المجتمع.
ويشير قانون محكمة الجنايات الدولية (نظام روما الأساسي)، إلى أن الحض على الكراهية بشكل واضح جريمة، كما أصدرت محكمة الجنايات الدولية الخاصة في راوندا، أحكامًا على ثلاثة من قادة الإعلام المحلي فيها، أساسها اتهامات بالتحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية.
ومن أهم ما ذكره قرار محكمة ضمن ما عرف وقتها بـ “قضية وسائل الإعلام”، أن المحكمة قالت إن قدرة الوسائل على خلق وتدمير قيم إنسانية أساسية تأتي مع مسؤولية كبيرة، وإن أولئك الذين يسيطرون على وسائل الإعلام مسؤولون عن عواقبها”.
باختصار، التغطية الإعلامية المتسمة بالتشفي بالآخر، أو شيطنته والتشجيع على قتله، تشكل جرائم يمكن الملاحقة عليها أمام القضاء الدولي.
والأخطر من ذلك أنها تسهم بتفكيك المجتمع، وتعزيز الشرخ المجتمعي بطريقة تجعل التعافي والعودة للأحوال الطبيعية صعبة للغاية، وهذا الوضع لا يمكن لأي محكمة إصلاحه، ولذلك على الإعلاميين أن يعوا حجم الأضرار، التي قد تتسبب بها تغطية إخبارية تحريضية تشجع على الانتقام أو الثأر.
تم إعداد هذا الملف من قبل عنب بلدي بالتعاون مع راديو آرتا إف إم
حلقة خاصة عن الملف في إذاعة آرتا إف إم