سوتشي والدرس والدستور

  • 2018/02/04
  • 12:10 ص
حذام زهور عدي

حذام زهور عدي

حذام زهور عدي

امتلأت أعمدة الصحف الإلكترونية والمطبوعة بأخبار مؤتمر سوتشي، وفاضت برامج التواصل الاجتماعي بالتعليقات، وكثر الحديث عن فشله أو نجاح أهدافه، وقد يجد المتابع صوابًا في الحالتين، فعندما يُنظر إليه من منظار التمثيل الشعبي وتحقيق أبسط المطالب الإنسانية والتي هي، باعتراف الأمم المتحدة وتوقيع دول مجلس الأمن بمن فيهم روسيا، مطالب فوق التفاوض سيُحكم عليه بدون شك بالفشل الذريع، وإذا نُظر إليه من زاوية الهدف المعلن روسيًا، وهو الحوار السوري- السوري، وتذويب الجليد بين” المعارضة” والموالاة، فقد فشل فشلًا لا يقل عن سابقه بل لعله زاد الطين بلة بالتصرفات الصبيانية الطائشة لمعظم من مثل النظام، ودلل بذلك على الصعوبة الشديدة لأي مصالحة وطنية مقبلة، إذ ظهر الموالون وكأنهم في كرنفال انتصار يملأ قلوبهم الحقد والكراهية العمياء، لا يقبلون بأقل من إقصاء السوري الآخر وإذلاله مهما كانت مرونة مواقفه منهم، أما من حُسبوا على “المعارضة” فقد بدوا وكأنهم الأيتام في مأدبة اللئام… ولعل في هذا درسًا لهم.

مع ذلك فهناك من اعتقد بأن وجوده كان مهمًا لأنه استطاع تمرير جملة هنا أو تعديل مصطلح هناك، وأن هدف المؤتمر قد تحقق من خلال إدخال معارضة “غير مؤثرة وفق النسبة المقررة” باللجنة الدستورية التي ستعتمدها الأمم المتحدة، وأن المجتمع الدولي -سرًا أو علنًا- اعتمد مخرجات هذا المهرجان، حتى أصبحت كقوانين دولية! أولئك كما يبدو إما أنهم وقعوا بالفخ الروسي أو أنهم لاعلاقة لهم بسوريا والسوريين.

من العبث مناقشة مسألة دستور في واقع بقاء النظام الأسدي، تلك بدهية يعرفها كل سوري، حتى لو اعتُمِدت أفضل دساتير العالم فإن السلطة الأسدية ستحوله إلى نسي منسي مقابل دستور الفساد والغلبة والفئوية والنهب الذي تتبعه، والقصص والأمثال أكثر من أن تُحصى باحتقار القوانين وفبركة أخرى وفق المطلوب بلحظة معينة، وليس أوضحها جمع أعضاء مجلس الشعب المعين، للموافقة على تعديل الدستور من أجل تنصيب الوريث الحكم، بل حتى الانتخابات المقترحة لما يُسمى مجلسًا للشعب، لن تبدل شيئًا في الوقائع حتى لو كانت تحت إشراف الأمم المتحدة إن لم يحدث التغيير الجذري للنظام، فالسوريون جميعًا يعرفون جيدًا أساليب النظام في تزوير الانتخابات وفخره علنًا بقدرته على التزوير واستخفاف أجهزته بالتصويت لدرجة كان بعضهم يعمد إلى إعلان النتيجة قبل يوم الانتخاب إمعانًا بالسخرية.

لكن الروس استطاعوا أن ينجحوا بتنفيذ استراتيجيتهم التي تقوم على أمرين:

أولهما: العنف المطلق وبكل أشكاله لإنهاء أي قوة للثورة السورية على الأرض، ما يعني الإضعاف السياسي التفاوضي.

وثانيها: إلهاء القيادات العسكرية والسياسية بمؤتمرات ظاهرها حل سياسي، تلبية للإجماع الدولي وباطنها إفشال أي حلٍ لا يلبي المصالح الروسية مئة بالمئة كسبًا للوقت، ريثما يحصل التوافق الدولي المطلوب على خططها، وريثما تحرف الثوريين السوريين عن هدفهم الأساسي بإسقاط نظام الفساد والمافيوية وبث اليأس والإحباط في النفوس وجعلهم يقبلون بما تقدمه لهم من حلول تعيدهم إلى أسوأ مما كانوا عليه قبل الثورة.

وقد نجحت الدبلوماسية الروسية بتحقيق مخططاتها تلك، واستطاعت أن تُبقي على نظام مهلهل ضعيف يأتمر بأوامر مصالحها بالوقت الذي كانت توحي به للمجتمع الدولي ولسياسيي المعارضة السورية بأنها صاحبة الكلمة الفصل وبأن من يريد حلًا” للمسألة” السورية لا بد من أن يسلم لها بما تريده، وبأنها الوسيط الأفضل الذي يستطيع انتزاع تنازلات من هذا النظام لصالح المطالب الشعبية، وبأن سوتشي هو الفرصة الكبرى التي يجب الحرص عليها وعدم إضاعتها.

في هذا نجح آخر مؤتمراتها (سوتشي) والذي لن يكون الأخير وفق ما اشترطت الأمم المتحدة، فمدن متعددة بالانتظار، أولها أستانة وموسكو ولا يُعرف آخرها، نجح لأنه جعل بعض من يحسب على المعارضة (وليس الثورة) فرحًا بأنه سيدخل إلى اللجنة الدستورية وهو يدري أو لا يدري بأنه حقق ما تريده الاستراتيجية الروسية من حرف الأهداف وإبعادها عن أي بحث حول النظام وتغييره الجدي، معتقدًا أن إصلاحًا أو تعديلًا لدستور يحل مشاكل سوريا، وكأن من ثار من السوريين ومن تهجر ومن ضحى والكوارث التي لم تبق مأساة بالتاريخ المحلي والعالمي قديمًا وحديثًا إلا تجاوزته، كل ذلك كان من أجل تعديل مادة دستورية باعتبار النظام الذي سيستمر نظامًا يحترم الدساتير والقوانين بما فيها القوانين الدولية والمعاهدات الأممية.

نعم هناك من يعتقد أن تعديلًا دستوريًا يحل مشكلته، إنه صالح مسلم والمجموعة التي تأتمر بأوامر حزبه، والتي تتوهم -كغيرها سابقًا- أن الدعم الأمريكي سيحقق أحلامها، لأنها ستجعل من ثلث سوريا دولة لها بالمستور وبالدستور، فدرالية تحت مظلة النطام الأسدي، ومع أنها اعتمدت منطق الغلبة والعنف والاحتلال وأعلنت من قبل سوتشي وغير سوتشي الإدارة الذاتية المستقلة، سياسيًا وعسكريًا وتغييرًا ديموغرافيًا وقوانين سلطة وحكم، إلا أنه يهمها أيضًا دوليًا أن تحصل على شرعية من خلال إقرار المجتمع الدولي والسوريين لمطالبها الانفصالية واعتمادها بمواد دستورية واضحة.

أي غباء هذا حين يعتقد بعضهم بأن نظامًا تحدى العالم كله واستخدم سلاحًا كيماويًا لإخضاع شعبه، ومازال حاكمًا يبيع الوطن كما يقتضي كرسيه، يمكن أن يحترم دستورًا أو قانونًا، إن من جدد بيعته بنسبة 99% ويحلم بمملكة وراثية تنافس الممالك الأخرى، مثل هذا يؤمن بدستور ويلتزم به؟ أم أن اجتماع الأمن السوري بأزلامه الذين أرسلهم إلى سوتشي وأعطاهم التوجيهات برفض أي تعديل دستوري معناه أن تعديلًا تحصل “المعارضة” عليه سيكون انتصارًا مدويًا لها.

ألم يلاحظ أولئك الذين صوتوا بالذهاب إلى المؤتمر الروسي، لترتاح ضمائرهم، وبعضهم ضليع بالسياسة، أن مثل هذه المسرحيات لها هدفان فقط، الأول زيادة إذلال المعارضة وإظهار العنجهية والاستكبار ورفع السقف في أي مفاوضات محتملة، أما الثاني فهو إيهام المعارضة (المرنة جدًا) بأنها استطاعت تحقيق شيء كبير إذا تنازل الوفد الأسدي عن إحدى المواد التي يستطيع النظام اللعب بها حينما يشاء، طالما أن السلطة الحقيقية ماتزال بيد أجهزته الأمنية وجيشه.

لقد جهدت السياسة الروسية بتعمد إفشال مؤتمرات جنيف، وأقنعت السيد دي مستورا بإحلال سلة الدستور محل فقرة الانتقال السياسي الجاد، واستبعاد الحوار حول مرحلة انتقالية كاملة الصلاحيات كما تقتضي مقررات “جنيف1″، وها هي الآن تحصل على وثيقة باسم الشعب السوري تضيفها إلى وثائق الأمم المتحدة لتلغي عمليًا أي إمكانية لمطلب الشعب السوري الأول بالتغيير الجذري للنظام.

فإذا كانت روسيا وباتفاق دولي أو غير اتفاق، تستغبي الشعب السوري وتسوق بعض “من اعتُبر معارضة” لمؤتمرات تحقق فيها ما تريد، فعليها أن تعيد النظر بعد موقف الشعب السوري من مؤتمرها هذا، والذي عبر عنه بشبه إجماع داخل الوطن وفي المهاجر وأن تعي جيدًا درسه، هذا الشعب الذي بالرغم من كل ما أصابه ويصيبه مازال بيده القرار الأخير، إنه الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوزه من أي طرف يريد استقرار مصالحه في الأرض السورية.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي