ريف إدلب – طارق أبو زياد
في غرفة شبه مظلمة، تكاد لا تميز منها شيئًا لشدة الدخان المنبعث من السجائر، هدوء مخيِّم، جدران الغرفة مغطاة بالسجاد العجمي، وربما تكون بطانية إغاثية في واقعنا الحالي، المهم أنها مغطاة بشكل كامل تمنع رؤيتها.
تنظر للحاضرين وينتابك شعور أنك عدت في الزمن 50 سنة إلى الوراء، كلهم في السراويل والأحذية “الكسرية”، وتميزهم تلك القبعة الصغيرة على رؤوسهم “الحبسية”.
يوجد في أطراف الغرفة بعض القطع “الأنتيكا”، إبريق شاي عقيق حاضر دون غياب ولو للحظة، وبين كل هذه التفاصيل الدقيقة، تبرز بعض الكتابات التي تجذب النظر إليها، مثل “غدار يا زمن”، “يلي أمنك لا تخونه ولو كنت خوان”، “غريبة يا دنيا”. يظهر صوت مبحوح من أحد الحاضرين ليغني موالًا شعبيًا عادة يتحدث عن الهموم والغموم والعشق.
ينتشر في المدن السورية نمط “تراثي” بين الناس، مبني على أسس ومبادئ تبدأ من اللباس، إلى طريقة الكلام والسير وغيرها، وتختلف تسمية من ينتمي أو يحافظ على هذه الأمور بين مكان وآخر فمنهم من يسميهم “دقة قديمة”، “عتقي”، “جماعة الحبسية”، وغيرها من التسميات إذا لا يمكن تسمية هؤلاء الناس باسم واضح يميزهم.
هم ليسوا مجموعة أو حزبًا له شروط انتساب، بل قد نكون كلنا منهم، فهم يعتمدون بحياتهم على البساطة والمحافظة على التراث واللباس التراثي القديم والوشوم وغيرها، ويعتبرونها الطريقة الطبيعية للحياة، منهم من ينفذ تفاصيلها بإتقان، ومنهم من يلتزم بأمر واحد كلبس خاتم العاج مثلًا دون إعطاء بال لبقية التفاصيل.
الشاروخ والخاتم “الرجولي”
تحدثت عن بلدي مع علاء عيسى، الذي مايزال يحافظ على طريقته “العادية” بالحياة، ويقول باستغراب كبير “نحن أناس عاديون لا نختلف بأي شيء ولكن نعتبر هذه الأمور كهواية ونمارسها، اللباس الذي نلبسه فضفاض مريح لا يشبه أبدًا ألبسة اليوم الضيقة والتي تظهر ملامح الجسد وغير مريحة”، في إشارة منه إلى بنطال الجينز الضيق.
الخاتم بيد علاء فضة، صناعة يدوية، وله حجر عقيق أحمر داكن اللون، وعن ذلك يوضح، “الخاتم سنّة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهو طبيعي ويجب أن يكون ذا حجر كبير ليتميز عن محبس الخطبة وعن خاتم النساء، أنت رجل وخاتمك يجب أن يكون رجوليًا”.
يضيف علاء “أخي أنا ما برتاح غير بالشاروخ (حذاء شعبي صناعة يدوية) كلفني تفصيله ثمانية آلاف ليرة، جلد طبيعي وبيستاهل حقه، ما أحسن من النايلون ما بضل شهرين”.
ليس كل قبعة “حبسية”
الحبسية هي قبعة صغيرة تصنع من الصوف باستخدام السنارة بشكل يدوي، وتُلبس كنوع من التراث المرتبط بالعادات والتقاليد.
عبد الله حج حسن، من مدينة حماة يقيم في إدلب، ويعمل على تأمين هذه المستلزمات وصناعتها، شرح بعض التفاصيل المرتبطة بهذا النوع من الأزياء.
“الحبسية” قطعة مميزة جدًا، ويجب أن تضم 12 لونًا من خيوط مختلفة لكي تكون “على أصولها”، ولكن يوجد منها عدة أنواع وتحديثات، فمنها ما يأتي بلون واحد أسود أو رمادي، وتُطلب هذه الألوان لأن الملونة أصبحت قديمة بعض الشيء.
وبتنويه مهم، يوضح عبد الله أن القبعة البيضاء التي تشبه الحبسية لا تعتبر حبسية إطلاقًا، فالبيضاء مخصصة لكبار السن وطلاب العلم (في المساجد غالبًا).
المسبحة 33 حبة شرط أساسي
تبقى قطعة أساسية حتى يكتمل الزي التراثي، وهي المسبحة أو السبحة، ويجب أن تتألف من 33 حبة، بحسب حج حسن.
ويضيف، “القيمة المعنوية لها تختلف بين واحدة وأخرى، بالاعتماد على نوع الحجارة المستخدمة في صناعتها، ولرأس المسبحة أهمية أيضًا فيكون من الفضة، وتعتمد قيمتها على الشكل الذي يميزها، وكلما كانت صناعتها أصعب كانت أغلى، وقد يصل سعر المسبحة في بعض الأحيان إلى 100 ألف ليرة”.
أمزجة مختلفة وهوايات متنوعة
خالد دخلله من مدنية إدلب، يقول لعنب بلدي إنه بالإضافة للأمور الأساسية، سابقة الذكر، يتميز كل شخص بحسب الهوايات التي يمارسها، فمثلًا هناك من يهتم بتربية الحمام، أو ركوب الدرجات النارية، أو شك الخرز وتزيين التحف بها، وطبعًا جميعهم يحبون هذه الأمور، لكن نادرًا ما تجد شخصًا واحدًا يهتم بكل هذه التفاصيل بشكل كامل.
“المعزبة” مكان للسهر وإفراغ الهموم
يتعاون بعض الأصدقاء في كل منطقة أو حي، على تجهيز غرفة خاصة لهم تسمى “المعزبة”، يجتمعون فيها بشكل شبه يومي ليلًا للسهر وتبادل الهموم والحديث.
صبري العيواني نقل لعنب بلدي بعضًا من أجواء هذه المعازب، “هي عبارة عن مد عربي من الإسفنج والمساند، ويجب أن تكون جدرانها مغطاة بالسجاد العجمي إن أمكن، وفيها بعض قطع الأنتيكا، بالإضافة لمسجل صوت يستمع السهارى من خلاله إلى أغاني أشخاص مثل محروس الشغري، وفي بعض المعازب توجد آلات موسيقية مثل العود. عمومًا الأجواء هناك هادئة وتعتمد على المواويل”.
ظلمتهم الحياة لكنهم لا يردّون سائلًا
غالب هنيدي، خريج كلية الحقوق بحمص، اعتبر أن هذا النمط من الناس يعيش بانعزال عن المجتمع، ويسعى للابتعاد عن التطور بشكل كبير، وهم غالبًا غير مثقفين، وأرغمتهم تجارب الحياة على الوصول إلى هذه المرحلة، وفق حديثه مع عنب بلدي.
“ولكن هناك الكثير من الأمور الجميلة التي تُعتبر أساسية في حياتهم وأخلاقهم، كعدم قبولهم بالظلم، ومساعدتهم بشكل حتمي لكل محتاج، حتى وإن كان خارج قدرتهم، فهم لا يخيبون أي شخص قد يطلب منهم المساعدة”.
تتميز هذه الفئة من الناس بأنهم ضليعون بالبساطة ومحبة الآخرين، لا سيما الضعفاء، إذ قد تدخل مجموعة منهم بمشكلة كبيرة للدفاع عن أحدهم، وأي شيء يطلب منهم يلبونه بكامل قدرتهم سواء ماديًا أو معنويًا.
إلا أن تعاطي الحشيش والحبوب المخدرة تنتشر إلى حد ما بينهم، وإن كانت لا تشكل صفة عامة لهم، ويعود ذلك لظروف حياتهم القاسية التي اضطرتهم إلى ترك دراستهم باكرًا للعمل ودعم أسرهم.
ويشعرون بالتميز كونهم يحيون بهذا الشكل، معتبرين إياها الحياة الطبيعية بمواجهة الحداثة الغريبة التي أتى بها التطور، وفق وصف بعضهم.
فالشاب الذي يرتدي ملابس ضيقة، ويكثر العناية بشعره وتنسيق ملابسه، يسمى بينهم بـ “طنط” أو “نعنعي”، والتي يقصدون فيها عدم مروره بالتجارب التي تصنع الرجال عادةً، وفق رأيهم.