فيكتوريوس بيان شمس
يرتسم في أفق الصراع على المنطقة مشروعان استعماريان، الأول “إسرائيلي”، وهو استعمار كلاسيكي تقليدي، يتطوّر ويخرج من كلاسيكيته بتطوّر الصراع وبوجود “غريم” له، هو مشروع الاستعمار الثاني في المنطقة، أي الإيراني.
يتميّز المشروعان بجملة تقاطعات وتشابهات، الأساس فيها جميعًا، التنافس للهيمنة على المنطقة ومواردها. لكن المسألة ليست بهذه البساطة.
ففي حين تمارس “إسرائيل” اعتداءاتها من حين إلى حين، تارة على الجبهة اللبنانية، وتارة أخرى على الجبهة الفلسطينية، بما قد يبدو وكأنّه النمط الطبيعي لتعاطيها الروتيني الرتيب مع المنطقة. أنهت منذ مدّة طويلة نمط الحروب الكبيرة التي تخوضها مع جيوش ضخمة، بهزائم كارثية، سوّقت داخليًا على أنّها انتصارات ماحقة.
ومن القضايا الإشكالية في مسألة التعاطي المعقّدة مع الاعتداءات “الإسرائيلية” المتكرّرة، أنّها بدأت في الآونة الأخيرة تدخل في لُبّ المسألة الطائفية في المنطقة، والتي تفهمها “إسرائيل” أكثر ممّا يفهمها العرب أنفسهم. لكنها بكل الأحوال تحتل في هذا الصراع موقعًا بحاجة لإمعان النظر فيه لخطورته. ففي حين بدأ الصراع يأخذ منحًا سنيًا–شيعيًا في المنطقة بعد إيجاد “داعش” والدور الإيراني، الذي كان ضروريًا كطرف أساسي لرسم الخارطة الجيوسياسية والديموغرافية الجديدة، تعمل “إسرائيل” بصمت، لكن بذكاء، فكيف ذلك؟
تُطالب “إسرائيل” في كل المحافل التي تتواجد فيها بوضع المنظّمات الإسلامية التي لعبت دورًا في مقاومتها على لوائح الإرهاب، كـ “حماس” و “حزب الله” و “الجهاد الإسلامي”. وتضيف إليهما “داعش” و “جبهة النصرة”. بهذا تكون “إسرائيل” قد أزالت الفوارق بين هذه المنظّمات على اعتبار أن القاسم المشترك الوحيد بينها جميعًا أنّها “إرهابية”، يساعدها في ذلك خلل عربي في الرؤية، بحيث أثبتت الحرب الأخيرة على غزة أن هنالك مناخ عربي معادٍ للمقاومة بدأ يُعلن عن نفسه بالفعل.
يأتي هذا كلّه في ظل صراع إقليمي بدأ يأخذ منحىً طائفيًا واضحًا انطلاقًا من الصراع على سوريا، والذي دخلته إيران بشكل لا يقبل الجدل عبر “حرسها الثوري” وفصائل طائفية لبنانية وعراقية ويمنية وغيرها. في المقابل هناك ارتباك عربي في التعامل مع التنظيمات الإسلامية، وضبابية في الرؤية، وغياب لمشروع عربي جامع، باستثناء الخوف من تمدّد الثورات إلى دول أخرى، وهو ما باتت الأنظمة العربية تبني استراتيجياتها على أساس تفاديه.
في ظل هذا الارتباك العربي، وهو نتاج سياسات تاريخية في إفقار وتجهيل وتغييب الديموقراطية وحرية الرأي والتعبير، أصبح من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- علاجها بقرارات عاجلة. لهذا، وقعت الأنظمة العربية فريسة عدّة أخطار محدقة، أولها الثورات المحتملة، وثانيها الخوف من الإسلام السياسي على تنوعه وتعدّده، وهو الذي تورّطت بعض الأنظمة العربية في إيجاده ونغذيته وتمويله، وثالثها الوقوع في فخ الصراع الإقليمي الطائفي بسبب الطموحات الإيرانية للهيمنة. في الخطر الثالث يكمن المأزق، لأنّه سيفرض على البعض مهادنة مع الأقل خطرًا، ولو نظريًا، للتخلّص من الأكثر خطرًا، ما يعني أن على بعض الأنظمة العربية العمل على التنسيق مع إيران للتخلّص من خطر “داعش” في ظل التمدّد الإيراني. بهذا، يظهر “داعش” وكأنّه يقاتل خصمين متخاصمين، لكنهما متّفقين فقط على التخلّص منه. إلا أن الخطر الإيراني، والذي بدأ بالتمدّد فعلًا باتّجاه اليمن وبعض دول الخليج، بالإضافة لما هو حاصل في سوريا والعراق ولبنان، سيوصل الأمور لمراحل أكثر خطرًا بعد حال الضعف الذي سيبدو فيه العرب في مرحلة لاحقة. وهذا يطرح سؤالًا افتراضيًا مهمًّا: هل سيضطر العرب في لحظة ضعف داهم للاستنجاد بـ “إسرائيل” على اعتبارها قوة نووية، تستطيع أن تقف في وجه إيران كقوة نووية مقابلة؟ ألا تبدو الأحداث في المنطقة وكأنّها ذاهبة بهذا الاتّجاه؟
حصول مثل هذا الأمر، سيحقّق لـ “إسرائيل” مسألة في غاية الحساسية والدقّة، بمعنى: ستقع “حماس” وغيرها من الفصائل الإسلامية المقاومة في فلسطين في فخ العزلة والنبذ على اعتبارها ستكون خارج أي إجماع عربي عليها، سواء كان شعبيًا، أم حكوميًا.
في المقابل، سيحوّل هذا الاستقطاب الطائفي الحاد من “حزب الله”، حتى إن بدا وكأنّه مازال يحتكر الجبهة اللبنانية مع العدو، إلى جزء من طرف طائفي إقليمي يستهدف “إسرائيل” لأسباب طائفية ليس إلا، كونها أيضًا جزء من تحالف طائفي مقابل، مع أن “حزب الله” يحتفظ بسلاحه لأسباب داخلية لا علاقة لها بمعادلة الصراع مع العدو، على الأقل منذ تدخّله في سوريا. هكذا، يكون الصراع قد أخذ شكلًا آخر مختلفًا تمامًا عمّا عهده العرب طوال الستة عقود الماضية، ضاعت فيه فلسطين، وأصبحت “إسرائيل” جزءًا طبيعيًا من المنطقة، بل حليف وحامٍ لأهلها من خطر آخر، عايشته المنطقة بالفعل، وعانت من ويلاته وإجرامه.
واختصارًا، قد تكون حالة اللا استقرار هي التي ستسود المنطقة في المرحلة المقبلة التي قد تمتد لعقود، حالة يتعايش فيها معسكران بحروب موضعية دائمة، تتّسم بصغرها وطائفيتها، تؤمّن حالة من الثبات، تستطيع فيها القوتان الإقليميتان إيران و “إسرائيل” تأمين مصالحهما، فيما تتشتّت قوة العرب التي ستستخدم في هذه المحرقة. وإذا صح هذا، فإن وجود هكذا مناخ من التوتر الدائم بسبب الأطماع الإيرانية المتزايدة سيكون عامل ابتزاز “إسرائيلي”–أمريكي للأنظمة العربية التي ستزداد تمسّكًا بالتحالف معهم درءًا للأخطار الإيرانية القائمة.
هكذا تكون قد دخلت “إسرائيل” في عضوية المنطقة من أوسع أبوابها، واستطاعت توظيف القدرات العربية في كل مشاريعها ومخطّطاتها، وضربت مبدأ العداء لها مرّة واحدة وإلى الأبد.
كل هذا ضمن مشروع إمبريالي أوسع، “إسرائيل” جزء منه، ومن حركة رأسماله، بينما إيران أداة من أدواته. كان بالإمكان استبعاد تصوّر كهذا لو كان في المنطقة قوى وطنية منزّهة عن الانقسامات الدينية والطائفية والطبقية، تستطيع أن تقف بوجه هكذا مشاريع لإحباطها، لكن تغييبها المدروس من قبل الأنظمة العربية، يفسح في المجال لما هو أسوأ من ذلك.