طغيان الأكثرية وسلطة المجموع … “إذا استيقظت فوجدت نفسك مع الأكثرية فقد آن أوان التغيير”

  • 2014/10/05
  • 10:34 م

عنب بلدي – العدد 137 – الأحد 5/10/2014

هبة الأحمد – ريف دمشق

تحتل الجماهير في التاريخ البشري والدراسات الإنسانية موقعًا هامًا، من حيث الأدوار التي تلعبها ومن حيث تأثيرها على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، وقد توسعت الدراسات خلال القرن العشرين في بحث ظاهرة الجماهير من جميع الجوانب، واحتل علم النفس موقعًا مهمًا من هذه الدراسات حتى بات هناك علم قائم بذاته هو علم نفس الجماهير.

للجماهير تأثيرها الكبير على الفرد وخصائصها التي تميزها عنه، وقد ذكر بعضًا منها جوستاف لوبون في كتابه “سيكولوجية الجماهير” الذي صدر في القرن التاسع عشر، والذي مايزال يحتل موقعًا هامًا في دراسة نفسية الجماهير، يعتبر لوبون أن الخاصية الأولى للجماهير هي : ذوبان شخصية الفرد في المجموع “فأيًا تكن نوعية الأفراد الذين يشكلون المجموع، وأيا يكن نمط حياتهم واهتماماتهم ومزاجهم أو ذكائهم، فإن تحولهم إلى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية، وهذه الروح الجماعية تجعلهم يحسّون ويتحركون بطريقة مختلفة عن الطريقة التي كان سيحس بها كل فرد لو كان معزولًا”.

الإنسان الفرد بطبيعته يسعى للتجمع والاحتشاد، ويشعر بالراحة لانتمائه لمجموعة معينة، وهي غريزة طبيعية أكثر منها ميل أو رغبة بشرية، لذلك تجدها عند أسراب الطيور وقطعان الماشية، ومن هنا أتت تسمية (القطيع) والتي أطلق عليها البعض (الحشد) كمصطلح أكثر تهذيبًا، هذه الروح الجماعية التي تحدث عنها لوبون تمد الفرد بطاقة هائلة وتمنحه أمنًا وراحة.

لكنها في الوقت ذاته تذيب شخصيته وتمحو فرادته وتأسره، فالمجتمع يسعى دومًا لجعل الجميع نسخًا متشابهة عن بعضها، حيث لا مكان للتميز والإبداع والخروج عن المألوف -رغم أن الاختلاف لا الاتفاق هو وقود ركب الحضارة- وينقش مالا نقاش فيه في أذهان الجموع منذ الصغر أن من يخرج عن القطيع  فسيكون وجبة سائغة للذئب المفترس، وأن الجموع هي الجنة ومن شذَ يشذّ إلى النار، وأن المفارق للجماعة يستحق ضرب عنقه، بهذا وغيره يتماهى وجود الفرد ضمن الجماعة إلى الحد الذي تتلاشى شخصيته الخاصة، ويعتبر هذا التماهي فرضًا مقدسًا يستحق التبجيل، وتسمعه من باب الفخر على لسان الشاعر:

وهل أنا إلا ابن غزية إن غوت .. غويت وإن ترشد غزية أرشد.

وأما من يريد أن يكون هو (ذاته) فسيقع في صراع مرير طويل بين أناه والآخرين، وغالبًا ما يحسم الصراع لصالح الآخرين لأن “الكثرة تغلب الشجاعة”.

وعلى الرغم من أن علم النفس والاجتماع يقرران أن الجموع يمكن استلاب عقلها وتزييف وعيها بسهولة، وأن اللاوعي وليس الوعي هو من يهيمن عليها ويحكم تصرفاتها، وعلى الرغم من أن الكتب المقدسة تردد دومًا أن أكثر الناس لا يفقهون ولا يعلمون وأن من يتبع أكثر من في الأرض يَضل ويُضل وأنه طوبى للغرباء، فإن معيار “الأكثرية والعدد” مازال مستخدمًا من قبل الكثيرين لدعم فكرتهم وإثبات صحة منهجهم وتخويف المخالف لهم، مثلًا لتثبت أن حاكمًا ما حاكم عادل وشرعي لن تحتاج إلا لقطيع ضخم من المؤيدين، ولكي تثبت نجاح برنامج أو كتاب فلا تحتاج إلا لذكر نسبة مشاهدته أو عدد مبيعاته، وإذا أردت نصرة مذهب من المذاهب فتحدث عن عدد معتنقيه، ولكي تثبت حديثًا عدّد رواته، وإجماع العلماء على أمر يجعله صحيحًا بلا نقاش ولا شك.

حتى الديمقراطيات والنظم التي تتمسك بالعدالة تعتمد معيار “الأكثرية” وتبني عليه سياستها، في الانتخابات وفي التصويت على أمر ما، مثلًا تجد باراك أوباما في حملته الأخيرة على الإرهاب يعدد الدول التي ناصرته في حربه، وهذه السياسة التي تقوم على عد الأصابع أثارت سخرية سقراط فقال عنها “أليس من الجهل أن يحل العدد محل الحكمة؟”، ورفضها نيتشه وأفلاطون معتبرين أنها نظام معادٍ للعدالة.

والحقيقة أن الحقيقة لم تكن يومًا بيد الغالبية، فهي تضيع بين الجموع، وتلقى مصيرها المحتوم بإساءة الفهم كلما خرجت عن طبيعتها الفردية إلى الطبيعة الجماعية، وعقلية الحشد والوعي الجمعي بحاجة إلى ثلاثة قرون لتصل إلى مستوى تفكير العبقري، لذلك ترى البشرية دومًا ترفض الجديد من الأفكار وتنكل وتندد بعباقرتها ومفكريها طالما كانوا أحياء و تمارس ضدهم طغيانًا اجتماعيًا أشد عتوًّا من كثير من ألوان الاضطهاد السياسي، وفي هذا السياق يذكر ستيوارت ميل في كتابه “الحرية” كلامًا عن تفوق ديكتاتورية المجموع على ديكتاتورية الفرد حاصله أن الفرد الديكتاتور الذي يفرض سلطته على المجتمع، قد يفرض سلطته على من تنالهم يده وعساكره، ومهما كانوا فهم قلّة، أما ديكتاتورية الأكثرية فيصعب أن يفلت منها أحد من الأقلية لصرامة الرقابة وشدة القناعة بها والتعصب لها.

وبهذا، إذا كانت الدساتير في الماضي توضع للحد من سطوة الحكام، فيبدو أننا نحتاج ما يحد من سطوة الجمهور وطغيانه ولعله يكون الوعي، أخيرًا لا يمكن للأكثرية أن تكون معيار الحقيقة، ولكنها يمكن أن تكون مؤشرًا على نقيضها، وفي هذا يقول مارك توين عبارة تختصر العلاقة بين الحشود والحقيقة: إذا استيقظت فوجدت نفسك مع الأكثرية فقد آن أوان التغيير.

مقالات متعلقة

مجتمع

المزيد من مجتمع