عنب بلدي – العدد 137 – الأحد 5/10/2014
(وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق)، وهل هناك أجمل من هذه السياحة، ومعها الاعتكاف في رحاب الله، وأداء للفريضة الخامسة من فرائض الإسلام؟!
ونحن نجلس في بيوتنا نراقب عبر شاشات التلفزة صور الحجيج، ندعو ونبتهل معهم، ونطوف بقلوبنا وأرواحنا، وعقولنا تسأل ما بال المسلمين يطوفون الآن بخشوع، وعلى قلب رجل واحد، وما إن ينتهوا حتى يتفرقوا وينقسموا، ويطوف كل منهم حول ذاته أو حول طاغيته وصنمه وإلهه الذي يعبد، فهل طوافهم نسكًا دينيًا حقًا أم تمثيلًا؟ وهل هي أدوار يتقمصونها لدقائق ثم يعود كل منهم إلى حال سبيله؟
ثم يعلو صوت العقل: ها هم الآن يجتمعون حول نقطة واحدة، لا فرق بين أبيضهم ولا أسودهم، عربيهم ولا حتى أعجميهم، ثم يخرجون ويتناحرون ويضحي كل منهم بالآخر مقابل مصلحته لا بأضحية يتقرب بها للباري، فهل –مرة ثانية- يطوف كل منهم حول نفسه، مسبّحًا برأيه، ومهللًا لأفكاره؟!
وإن فكرنا بعيدًا -ولو لقليل- عن الحج الذي بات عند البعض وإن فكرنا بعيدًا -ولو لقليل- عن الحج الذي بات عند البعض طقوسًا لا أكثر، إلى حج القلب، كما تكرر ذكره في آيات سورة الحج (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منكم)، (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)، ولو رجعت إلى آيات السورة لرأيت أن غالبيتها يركز على الحج بالقلب والرَوح إلى الله، فهل فكرنا بالإحرام عن طريق ضبط اللسان إلا ما فيه خير، وهل نطوف على المحتاجين، ونسعى لقضاء حاجاتهم، ونبيت بسلامة صدر، بعد أن نرمي عن كاهلنا حتى صغائر الذنوب، فنكون قد تحللنا ورددنا الأمانات إلى أهلها، وكلنا أمل بأننا قطعنا المسافة مهرولين بقلوب سليمة إليه، لا بالسير فوق مقاعد الركبان، جسدًا خاويًا لا روح فيه.
ولنعد مرة أخرى إلى الحج بالأجساد، فهل يذكرك رميك للجمرات، بأن عليك أن تكون متيقظًا على الدوام، وأن تسعى جاهدًا لتحقيق أهدافك، ولو كنت بواد غير ذي زرع، فلا تدري من أين ستنبع مياه العون لك على تحقيق مبتغاك، ثم وهل علّمك هذا النسك بأن تحدد عدوك بدقة، وتميزه من بين الألوف، ولو أقسمت على الله الأماني أن تبقى محايدًا -تمشي الحيط الحيط وتقول يا رب سترك– على حد ما يقال، فهذا لن يعفيك من واجبك بأن تبقى مستعدًا لمواجهة أي خطر قد يداهمك، حتى وإن قصد غيرك فأخطأه بك، وعندها لن تبقى منفردًا كما تلك الحصية، بل ستتعلم منها أن تنخرط في المجموعة، فلوحدها لن تحدث أثرًا، ولكن مع الجميع ستخلّف وراءها ما قد تعجز عن تحقيقه سنوات بمفردك، فما عليك إلا أن تشد عضدك بإخوتك، وترموا عدوكم من أكثر من جهة، فأنت الأَولى بك أن تأخذ الحذر من غدره، ومن ارتدائه أكثر من زي، لا أن يأتيكم بغتة من كل جانب، وستواجهونه بتوحدكم، بأخلاقكم وقيمكم، لا بسلاحكم أو عتادكم، فهي مجرد حصيات صغيرة ستقلب المعادلة!
وهل ستقف على عرفات فيُغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وترجع كيوم ولدتك أمك، إن لم تقف عند الخطوط الحمراء والحدود المرسومة لك، لا أن تبقى دائرًا حول الشبهات، توشك أن ترتع فيها، بل تجتنبها، وتتجنبها –إن صح التعبير- مستبرئًا لدينك وعرضك، وتصون حقوقك، لا تتركها مهدورة بين نعال الحكّام وتجار الدم والحروب.
عندها أظن –وعسى ظني حسنًا- أنك ستستقبل أيامك برحابة صدر، وكأن كل واحد منها عيد، بعد أن تقدم إخلاصك ووقتك وعلمك وعملك أضحيات تتقرب بها من الخالق، فأنعِم به من عيد! وكل يوم وأنت إلى العيد أقرب، ومن رب العيد أكثر قربًا.