أيهم الطه
السياسة عالم واسع لابد للعامل فيه من معرفة الجغرافيا وفهم السياق التاريخي، يأخذ الحوار فيه أشكالًا مختلفة آخرها الحوار بالنار، والذي لابد أن يكون محددًا غير مفتوح، وإلا تحول إلى عبثية لا معنى لها، وهذا ما يمكن نقاشه في معركة عفرين.
وهنا لابد أن نتذكر ذلك الصحفي الفرنسي، الذي صرخ ذات يوم منبهًا حكومة العراق من الحرب العبثية في الشمال: “أنظروا جيدًا إلى تلك الجبال الوعرة التي تنزلق منها القنابل مثل كرات النار دون أن تؤثر فيها”.
المشروع الأمريكي
مما لا شك فيه أن المشروع الأمريكي، الذي حاول خلق كيان جديد بين الحدود التركية والسورية والعراقية تتمركز فيه القواعد العسكرية الأمريكية بشكل دائم في المنطقة، أخذ يتهاوى مع رفض جميع الدول الإقليمية له، لكن الخسارة الأبرز فيه هي اهتزاز ثقة الكرد بالأمريكيين، ما سيدفعهم لتعزيز صلاتهم بالنظام ومحوره الروسي- الإيراني بشكل أكبر، وقد ظهرت بوادر ذلك في استنجاد الكرد بالجيش السوري ودعوتهم له بدخول عفرين.
هذه الدعوة وإن كانت تكتيكًا مؤقتًا، إلا أنها شكلت بداية مرحلة جديدة في سياسة “الإدارة الذاتية” الكردية، التي عملت خلال السنوات الماضية على تقليص انتشار القوات السورية في مناطقها وطردها بشكل كامل من بعض النقاط.
وقت مبكر
من يعرف مناطق الشمال الغربي من سوريا يعلم أن التحركات العسكرية فيها بحاجة لإمكانات عسكرية كبيرة (بشرية ومادية)، وخبرات خاصة وميزانية مفتوحة ومدة زمنية طويلة، وهذا ما عبر عنه أحد الساسة الغربين بقوله “هناك يعلم الناس عن الرصاصة الأولى، لكن من العسير أن يتنبأ أحد بالرصاصة الاخيرة”.
المعركة الحالية على أرض عفرين غيرت الكثير من الموازين في خارطة قوى المنطقة، وستظهر نتائجها خلال الأشهر المقبلة، ورغم أن النتائج العسكرية لهذه العملية ستحتاج إلى وقت طويل حتى تحسم، إلا أن النتائج السياسية بدت ظاهرة وملموسة عبر اعتراف المجتمع الدولي بحق الدولة التركية بحماية حدودها، ومواجهة قوات “الإدارة الذاتية” (كتهديد إرهابي)، وتخلي معظم الدول الداعمة لمشروع “الإدارة” عن دعمه في هذه المواجهة، وبالتالي خلخلة المشروع ككل وإيقافه.
لكن لابد من الإشارة هنا إلى أن الحلول في هذه المنطقة تحتاج إلى رؤية معمقة، لا تهمل حقوق أحد ولا تترك ضغائن في النفوس، وإن تقرن بتسوية سياسية تؤمن شيئًا من الاستقرار.
حسابات المرحلة
ما يحاول الساسة فعله في “الإدارة الذاتية” اليوم، هو دراسة الظروف والتعامل مع واقع مستجد كانوا يظنونه بعيدًا ومستحيلًا بسب الدعم الأمريكي لهم، والوعود التي أغرقوا بها منذ بداية حروبهم ضد “التنظيمات الإرهابية”، لكن معظم تلك الوعود ذهبت أدراج الرياح وترك الكرد يواجهون مصيرهم.
ولذا فقد حاولت “الإدارة” أن تعمل على هدفين خلال المرحلة الحالية، في محاولة استجماع قوتها وتضميد جراحها، الأول: إطالة أمد المعارك وبالتالي إلحاق أكبر قدر ممكن من الخسائر المادية والبشرية بالأطراف المهاجمة، وهذا قد يؤخر من تقدمها، والثاني يكمن بتحرك الضغوط والوساطات الدولية عبر القنوات الدبلوماسية والإعلامية، لإيقاف الحرب عبر تفاهمات سياسية ستقلل من خسائرها، وهذا ما تجلى بداياته في حملات إعلامية منظمة انطلقت في بعض الدول الغربية، وخاصة فرنسا وألمانيا، تهدف إلى تحريك مواقف هذه الدول، ومن خلفها الاتحاد الأوروبي، الذي أعلن عن تأييده للعملية في بدايتها ثم غير موقفه بعد أسبوع إلى المطالبة بضبط النفس.
تحالفات دولية
في حين بقيت “الإدارة الذاتية” تكتم شعورها بالخيانة والخذلان من جميع الأطراف المحلية والدولية، محاولة حساب خياراتها الداخلية والإقليمية بشكل صحيح وواقعي، والاستفادة من أوراق الضغط المتاحة في يدها، لتعزيز الموقف الدولي وهي:
– الحرب ضد تنظيم “الدولة” وقد بدا ذلك جليًا في تصريح القيادية الكردية في “وحدات حماية المرأة”، نسرين عبد الله، وقالت إن كانت عفرين خارج منطقة نفوذكم، ولا تشكّل لكم أي أهمية عسكرية أو ثقل سياسي، فعليكم أن تعلموا جيدًا بأنّ دير الزور لا تشكل لنا أي أهمية عسكرية أو سياسية”، مذكرة أن “الآلاف من تنظيم الدولة لا يزالون على الحدود بين سوريا والعراق. إن لم تتدخلوا لحماية عفرين، فنحن مجبرون بأن ننسحب ونتوجه لعفرين لحماية مناطقنا”.
– إعادة التحالف مع قوات النظام وتطمينها بأنه لا رغبة لـ “الإدارة الذاتية” بتشكيل دولة، والقبول بالعمل تحت عباءته معبرة عنه ومرحبة بدخول الجيش السوري إلى عفرين.
– التلويح لاستمرار الدعم الغربي عبر التأكيد على وجود جنود أجانب لا يزالون يقاتلون في صفوف قواتها حتى اليوم.
وفيما لم تحسم حتى اليوم آثار هذه التكتيكات، إلا أنها تبدو متأخرة عن موعدها وغير مجدية، في ظل أجندة إقليمية أكثر وضوحًا، وتفاهمًا روسيًا إيرانيًا تركيًا، يسير في طريق واضح رغم الخلاف على بعض التفاصيل.
على صعيد متصل فإن تمدد عملية “غصن الزيتون” إلى مدن أخرى ومناطق أوسع يبدو مستبعدًا في المدى المنظور، لصعوبة العملية وتلافيًا لاعتراض دولي.
أخيرًا خرجت “الإدارة الذاتية” خاسرًا أكبر في هذه المعارك، دون أن تستفيد من التجربة العراقية في كردستان العراق قريبة العهد، إذ فقدت الكثير من أوراق الضغط الداخلية، التي كان يمكن أن تستفيد منها في أي عملية سياسية مقبلة.
بينما خرج النظام السوري وهو الرابح الأكبر حيث كسب تحالفًا جديدًا في الإقليم، واعترافًا داخليًا من الكرد بسيادته على مناطقهم، وأنهم ضمن الحدود السورية وسلاحهم يرجع للدولة السورية، واعترافًا إقليميًا عبر رسائل وجهت إليه، قبل البدء بالعملية من أطراف إقليمية كونه صاحب السيادة، وهذا في حد ذاته اعتراف بشرعية بقيت موضع نفي وتشكيك طوال السنوات الماضية من تلك الأطراف، ومستريحًا بشكل مؤقت من النزاع مع طرف داخلي (الإدارة الذاتية) قوي ومنظم ومسلح ويحظى بقبول دولي، كان يمكن أن يسبب له العديد من المشكلات.
وربما ينعكس تفاهم الروس والنظام مع الكرد سلبًا على المشروع الأمريكي شرق الفرات، حيث تتطلع عيون الروس والنظام إلى التمدد وإعادة بسط سيطرة النظام على منطقة حيوية واستراتيجية وغنية بالموارد والثروات الباطنية.
هي معركة عض الأصابع التي تحاول فيها “الإدارة” الكردية المسير بخطين متوازيين، الأول لملمة صفوف الكرد الداخلية، والثاني هو الحفاظ على المكاسب الدولية التي حققتها خلال السنوات الماضية.
عملية “غصن الزيتون” حققت العديد من أهدافها السياسية بعد أسبوع من انطلاقتها، و”الإدارة الذاتية” هي في أضعف أحوالها منذ نشأتها، لكن ورغم تخلخل قوتها إلا أنها لا تزال تمتلك العديد من الأوراق الداخلية والإقليمية والدولية التي يمكن أن تستخدمها.