هل يرتكب المرء حماقة إذا ما تصور أن “داعش” مثل أيضاً لحظةً “تقدمية، لا سيما إذا افترض أن التقدم قد ينطوي على قدر من التوحش”؟ ربما عليه أن يُغامر إذا ما عثر على أثر لفكرته في مسارات التنظيم الكثيرة والجحيمية. فالفكرة تغري بخوضها وتجريبها، لا سيما وأن “داعش” نزوة غير عابرة، ودولته شكلت اختباراً هائلاً لعلاقات الأهل والعشائر والمدن.
السؤال مستفز فعلاً، لا سيما إذا ما قفز إلى ذهن المرء من حصيلة رصده لمسارات التنظيم خلال حكمه المدن التي حكمها. فـ”داعش” مثلاً هو أكثر التنظيمات الإسلامية الراديكالية التي تطوع فيها نساء، سواء من أبناء المجتمعات المحلية، أو متطوعات جئن إليه من دولٍ بعيدة! و”داعش” هو أكثر التنظيمات الإسلامية دعوة للتخفف من القيد الاجتماعي ومن التقاليد والإلتزامات العائلية والقرابية والقبلية. النص الديني فقط، كان الفيصل في العلاقة بين المرء وبين جماعته، وهذا وإن تحول جحيماً، إلا أنه كان انقلاباً يشبه الثورة. النص الديني نفسه، الذي يتوسط بيننا وبين الكثير من أوجه حياتنا، والذي تم امتصاص تبعاته القاتلة وهو ما تولته عشائرنا ومدننا ودولنا، وهذه جميعها وحدات اجتماعية متخلفة وقاسية وجائرة.
امرأة من مدينة الباب السورية تمكنت هي وشقيقاتها من تطليق أزواجهن على باب المسجد، وبمساعدة “رجال الحسبة”، وتمكنّ من الإلتحاق بالتنظيم والزواج من آخرين. الرواية الرسمية كانت أن الأزواج كفار، وهم وإن كانوا يواظبون على الصلاة إلا أنهم يدخنون. وهنا على المرء أن يُنحي جانباً هذه الأسباب، وأن يشرع بالتفكير باللحظة التي صار فيها بإمكان امرأة أن تقول لزوجها أنها تريده أن يطلقها. وهذه لحظة صنعها “داعش”. ثم أن قرار الانفصال عن الزوج ليس وليد لحظته، فمن المرجح أنه حصيلة تراكم مشاعر مثلت “داعش” فرصة لتفجرها.
جرى ذلك على نطاق أوسع، وعلى ضفاف كارثة أحدثتها ولادة التنظيم. فالسيولة التي كشفها التنظيم في علاقته بعضواته النساء خلقت عالماً متخيلاً فعلاً من العلاقات المنفلتة من القيد الاجتماعي. الدعارة صارت شكلاً من العلاقات البينية في التنظيم. عالم من الزوجات غير المقيدات بغير قيد التنظيم، ومضافات نساء هي أشبه بمعارض نزوات غير معقدة. فالتنظيم استهدف بين ما استهدفه تلك العلاقات الشديدة القسوة والمقيدة لأي تحفز أو رغبة. والتنظيم أطلق العنان لأي جموح، ومن بينها جموح الرغبة والميل إلى التخفف من القيود المضروبة حوله. فأنت في “داعش” يعني أنك ضد كل شيء كبرت عليه وتعلمته وصار حالك المقموعة بقيم الجماعة.
نساء كثيرات وجدن في التنظيم فرصة للإنتقام ليس من أزواجهن فحسب، انما أيضاً من كل من اضطهدهن. ليست النساء لوحدهن من أراد الانتقام من كل شيء سبق ولادة التنظيم. الانتقام كان أحد عناصر قوة التنظيم، وطاقة كامنة في كل العنف الذي مارسه. القتل لم يكن دافعه صد العدو المباشر أو هزمه ودحره فقط، إنما كان أيضاً نوعاً من الانتقام. في كل السير التي استعرضت لأمراء التنظيم ولعناصره، يمكن أن نعثر على أثر لرغبة في الانتقام. وحين قالت الزوجات الثلاث لأزواجهن أنهن يريدن الطلاق، عليك أن تتخيل الوقائع التي سبقت هذا المشهد. وعليك أن تستعيد قول أمهن الهاربة من “عار” بناتها إلى تركيا أن النظام دمّر منازلنا وقتل أولادنا، أما “داعش” فقد دمّر كل شيء.
نحن هنا نتحدث عن مدن وبوادي تُعشعش فيها ظلامات مئات السنين من أشكال القهر والضبط والمنع والقتل. وهذه المرأة المنشقة عن زوجها، خلفها عشرات سنين من حكم الأب والأخ والعشيرة والبعث والجيش الحر والحشد الشعبي، وما لا يُحصى من شعائر القسوة والصمت. و”داعش” وقبل أن يصبح جزءاً من منظومة الاضطهاد هذه، قال لهذه المرأة وقبل أن يحولها جارية: هيا انتقمي، لا شيء بينك وبين القتل سوى النص، وهذا الأخير يتيح ما لا تتيحه العشيرة والمدينة والسلطة الغاشمة. وبعد ذلك أدخلها إلى المضافة وعرضها في سوق نخاسة لطالما ورد ذكره على لسان العائدات من التنظيم.
“داعش” دمر العشائر أيضاً، لم يقم حساباً لنفوذها، ولم يكترث لحصصها في غنائم الحروب التي شاركته فيها. قال أميره التونسي لشيخ عشيرة العقيدات “أنتم لستم مسلمون”، ملقياً بكل إرث العشيرة وخبراتها وعلاقاتها في “الجاهلية”، وطالباً منه “مغادرة الديار وإعلان الردة ثم التوبة”.
و”داعش” كان أكثر التنظيمات الراديكالية الاسلامية جذباً لملتحقات من الغرب، وهؤلاء جئن إليه لأنه امتداد لمزاج في الخروج على كل شيء. ومثل أيضاً عملية تقريب مخيفة بين الخيال وبين الواقع، لا بل هو ابتذل الخيال فحوله واقعاً، وفي هذا قدرات غير رجعية على الأقل. المراهقة الفرنسية الهاربة من باريس إلى الرقة قالت لشقيقها عبر الهاتف من حلب، أن المدينة هنا تشبه “يورو ديزني” مع فارق أن الطائرات هنا حقيقية والقتلى حقيقيون.
لا شيء يوحي بأن “داعش” تنظيم رجعي، وليس في هذا تقليلاً من جحيمية المرحلة التي حكم فيها المدن والناس. النازية كانت أحد ثمرات الحداثة والتقدم في أوروبا. وبهذا المعنى استهدف “داعش” من بين ما استهدفه تخلفنا أيضاً، وإن أحل مكانه قيم التوحش، وفقه التوحش.
حين غادرت أم المطلقات الثلاث مدينة الباب، لم تغادر هرباً من التنظيم، انما هرباً من عار بناتها. الأشقاء أيضاً هربوا من هذا العار إلى تركيا. لقد أصاب التنظيم وجداناً جماعياً على المرء أن يصفن قليلاً قبل أن يأسف عليه، لكن من المؤكد أيضاً أنه وفي هذه اللحظة عليه أن يخاف من نفسه. أن يرتعد وأن يجزع لأن “داعش” المتوحش خاطب فيه رغبة.