في التاسع من الشهر الحالي، كرر رجب طيب أردوغان وعيده باستهداف عفرين ومنبج الخاضعتين لسيطرة الميليشيات الكردية، لتتلو تصريحه أمام نواب حزبه في البرلمان عمليات قصف متفرقة لمواقع الميليشيات في عفرين. وثمة تكهنات شائعة مفادها وجود صفقة تسمح بموجبها موسكو لأنقرة باستهداف عفرين، مقابل تسليم مناطق شاسعة من محافظة إدلب تتمركز فيها فصائل مدعومة تركياً، على رغم عدم وجود حاجة روسية لإبرام صفقة كهذه، جرياً على عادة استهداف مناطق التهدئة واقتحامها في انقلاب على التفاهمات السابقة.
قــــبل ما يزيـــــد على السنة كان واضحاً وجود تناغم بين تسليم الأحيـــاء الشرقية لمدينة حلب ودخول القوات التركية مدينة الباب لقطع الطريق على الميليشيات الكردية، ومن المعلوم أن أنقرة انخـــــرطت منذ ذلك الوقت بهمّة في التنسيق مع موسكو وطهران، سواء على مسار آستانة أو ضمن التحضيرات لمؤتمر سوتشي. وفــــق هــذه الانعطافة، تغير الخطاب التركي الذي كان معـــادياً لبشار الأسد ليركز على وحــدة الأراضي السورية ومحاربة الإرهـــاب وفــــق الفهـــم الذي يستهدف حزب العمال وفرعه السوري، مـــع استعادة النبرة السابقة ضد بشار فقط لمناسبة بروز خلافات تفصيليـــة مـع موسكو أو طهران، أي بما يلزم للتفاوض معهما.
على الجهة العراقية، كانت أنقرة قد اتخذت موقفاً شديد العداء إزاء الاستفتاء على استقلال الإقليم، فأغلقت حدودها لتتيح لطهران وبغداد محاصرته حصاراً تاماً، وتوالت تصريحات مسؤوليها المهدِّدة باستخدام السلاح لمواجهة مشروع الاستقلال. أي أن حرب أنقرة لا تقتصر على حزب العمال، وإنما تستهدف القضية الكردية في أماكن وجودها، وهذا موضع اتفاق داخلي، خاصة بين حزب العدالة وحزب العمل القومي بزعامة بهجت بهشلي، من دون استبعاد حزب الشعب الجمهوري (الكمالي) الذي لا يملك تاريخاً من الود مع الأكراد.
مع حفظ الفوارق بين الحالتين، مثلما ساهمت أنقرة في عودة سلطة بغداد إلى إقليم كردستان، تبدو عازمة على إعادة مناطق سيطرة الميليشيات الكردية في سورية إلى سلطة بشار. واقعياً، ليس هناك هدف آخر ممكن، فالميليشيات الكردية قد تناور للإبقاء على سلطتها الخاصة، لكنها في النهاية تفضّل تسليم تلك المناطق لبشار على تسليمها لتركيا أو لفصائل سورية تعمل تحت المظلة التركية، وهذه الميليشيات على يقين من أن أنقرة لن تخوض حينئذ نزاعاً مع قوات الأسد من أجل السيطرة على المناطق المستهدفة. الاحتمال الآخر المُستبعَد هو تلقي الميليشيات حماية أميركية مباشرة، إلا أن إدارة ترامب بعد التخلص من «داعش» لن تكون متحمسة لانخراط أوسع في تفاصيل الشأن السوري، ولعل أنقرة تملك مؤشرات مطمئنة عن العزوف الأميركي عن استنساخ تجربة إقليم كردستان سورياً.
في الأصل كانت الميليشيات الكردية قد تسلمت أماكن وجودها من قوات الأسد بلا اشتباك، وكان ذلك بمثابة رسالة من الأسد للجار التركي الذي لن يقبل بهذا الوضع على الحدود المشتركة بين البلدين، أي أن نتيجة «المغامرة» الكردية مضمونة سلفاً بالنسبة للأسد إذا قيّض له البقاء. ما لم يُحسب حسابه هو العلاقة الجيدة التي ربطت الميليشيات فيما بعد بالتحالف الدولي ضد داعش ممثلاً بالولايات المتحدة، وهذا هو الهدف الذي تستهدفه أنقرة الآن، وتفضّل على بقائه إعادة الميليشيات إلى سلطة الأسد. بذلك تكون المغامرة الكردية قد أدت ما هو مأمول منها، فهي بتحالفها مع الأسد بدايةً عمقت الشرخ مع السوريين الثائرين عليه، ثم أدت قسطها للتحالف الدولي بخوضها المعركة على الأرض ضد داعش، لتعود أخيراً في حال التخلي الأميركي بلا أي مكاسب باستثناء المكافأة التي يقررها حلف موسكو- طهران.
لمنطقة عفرين أهمية خاصة في هذا الميزان، ففيها غالبية كردية ساحقة جعلتها تُعرف سابقاً بمنطقة جبال الأكراد، ومنعت الجدل الموجود في مناطق أخرى حول نسبة الأكراد أو حول كونهم مهاجرين أو سكاناً أصليين. المنطقة تعتبر من المناطق الغــنيـــة زراعياً، ولم تشهد نزاعات عرقية محركها المضمر صراع علــــى المُلكية. وربما بسبب الوفرة الاقتصادية النسبية كانت الأقل اندفاعـــاً نحو تعليم عربي بالمطلق، وبين شبابها وشاباتها (في عمـــر الدراسة الجامعية وما قبلها) عثر حزب العمال الكردستاني عـــلى ضالته منذ منتصف الثمانينات، فأصبحت معقله الرئيسي في سورية بخلاف مدن أخرى مثل الحسكة والقامشلي، وهناك تقديرات تشير إلى ما لا يقل عن عشرة آلاف شاب وشابة منها ذهبوا في الثمانينات والتسعينات للقتال ضمن ميليشيا الحزب في تركيا.
عندما أصبح الفرع السوري للحزب قوة الأمر الواقع لم تسلم المنطقة (أسوة ببقية مناطق سيطرته) من الانتهاكات التي تبدأ بمصادرة الرأي الآخر ومطاردة أعضاء الأحزاب الكردية التي لا تتفق معه في برنامجه، مروراً بالتجنيد القسري للشباب والشابات، ما تسبب بحركة نزوح للأهالي، وصولاً إلى فرض التعليم باللغة الكردية فقط على كافة المدارس بما فيها مدارس القرى العربية الموجودة ضمن المنطقة، فضلاً عن فرض التجنيد القسري على الشبان العرب. حلت صور عبدالله أوجلان مكان صور الأسد ضمن العقلية ذاتها، وحلت مقولاته في مناهج التدريس بما يذكّر بمناهج البعث الحافلة بأقوال الأسد الأب أو الابن. لكن، على رغم ما سبق، تذهب التقديرات إلى أن منطقة عفرين استقبلت حوالى مئة ألف لاجئ، وجدوا في مظالم الميليشيات الكردية أقل الشرور قياساً بالبقاء تحت سيطرة الأسد.
لعل فهم طبيعة المنطقة يوضح سبب العرض الذي قيل أن الأسد قدّمه للأكراد قبل أشهر، وينص على قبوله فيديرالية كردية في الشمال الشرقي (منطقة الجزيرة) مقابل بقاء عفرين تحت سيطرته، ويوضح تالياً أسباب الضغط التركي الذي لن يصل بطبيعة الحال إلى هجوم عسكري مباشر، بل سيؤدي على الأرجح إلى تنفيذ المطلب السابق للأسد. جدير بالذكر أن الحدود التركية مغلقة منذ زمن طويل أمام اللاجئين السوريين، وهي لن تُفتح من أجل مدنيي إدلب أو مدنيي عفرين. لقد مضى الزمن الذي يخطب فيه أردوغان مستلهماً أمثولة المهاجرين والأنصار، والرجل الذي هدد في إحدى نوباته البلاغية بأن «مدينة حماة خط أحمر» انحسرت استراتيجيته السورية إلى التدقيق في قوائم المدعوين إلى مؤتمر سوتشي.