عنب بلدي – حلا إبراهيم
في ظلمة سجن دمشق المركزي يدخل مجموعة من الرجال إلى أحد الأجنحة بينهم ضباط في الجيش، وينادون على أسماء بعض النزلاء.
كان عبد العزيز أحد هؤلاء، بعد أن أمضى نصف مدة توقيفه بين فرع “المخابرات الجوية” في حرستا، الذي اعتقل فيه ستة أشهر بعد خروجه في إحدى مظاهرات بلدة عربين في ريف دمشق عام 2011، وسجن صيدنايا، الذي تم تحويله إليه بجرم “القيام بأعمال إرهابية، والتحريض عليها والتعامل مع قنوات تلفزيونية مغرضة”.
يقول عبد العزيز “أمضيت في سجن صيدنايا عامًا كاملًا، وكنت وقتها موقوفًا لدى قاضي التحقيق في محكمة الإرهاب، وبالرغم من تقديم عدة طلبات إخلاء سبيل، إلا أن القاضي رفضها جميعها”.
ولكن الأمر اختلف بعد إحالة عبد العزيز إلى سجن دمشق المركزي (عدرا) فالوضع هناك “خمسة نجوم”، ويضيف “بعد أن أحالني قاضي التحقيق في محكمة الإرهاب إلى سجن عدرا، بتغيير التوصيف الجرمي من إرهاب إلى جناية، أصبح يأتينا شهريًا مجموعة ضباط، يدخلون إلى أجنحة السجن واحدًا تلو الآخر، يعرّفون عن أنفسهم أنهم مندوبو وزارة المصالحة الوطنية، يعرضون علينا إخلاء سبيلنا مقابل أن ننضم ونقاتل في صفوف جيش النظام”.
يجد البعض هذا العرض فرصة للخلاص من جدران السجن، وخاصة أولئك الموقوفين لصالح محكمة الجنايات، لأن أحكامًا طويلة تكون بانتظارهم، بعضها قد يصل إلى الإعدام.
عبد العزيز الذي يقاتل الآن في صفوف فصائل الغوطة الشرقية، بعد أن أمضى أربع سنوات في سجن “عدرا” وخرج بإخلاء سبيل تحت المحاكمة، لم يقبل بالصفقة التي عرضها مندوبو وزارة المصالحة، رغم أن البعض قبلوها، لأنه برأيه “أن يقاتل ويستشهد وهو يقاتل عناصر النظام خير له من أن يقتل الأبرياء”.
مصير المطلق سراحهم والمقابل
يعلن النظام السوري كل فترة إطلاق سراح عدد من المعتقلين، فيما يسميه “تعزيز المصالحة الوطنية”، ولكن ما مصير هؤلاء المطلق سراحهم وما هو المقابل؟
يقول الإعلامي رائد صالحاني، “تردنا من مصادر مطلعة على شؤون المصالحة، أخبارًا عن وجود هذه اللجان التي تعرض على الموقوفين المطلوبين لخدمة العلم أو الاحتياط إخلاء سبيلهم، مقابل تسوية تشمل تطوعهم في جيش النظام، ولكن يقتصر هذا العرض على الموقوفين جنائيًا أو بجرائم اقتصادية، أما المعتقلون السياسيون والموقوفون بتهم الإرهاب فلا تشملهم التسوية”.
يلجأ النظام لهذه التسوية بسبب تناقص عدد أفراد الجيش منذ اندلاع الثورة، فأغلب الشباب ممن هم في سن التجنيد لا يلتحقون بالخدمة، وكثير منهم غادروا إلى خارج سوريا، وبعضهم الآخر مايزال يدرس ويؤجل دراسيًا.
ولكن هناك سببًا آخر للتأجيل يحصل عليه نزلاء السجون، ويشرح المحامي ياسر السيد، المختص بالقضايا العسكرية، كيف يستفيد المسجون من التأجيل بموجب القانون.
ويوضح نص القانون رقم 30 لعام 2007 الحالات التي يمكن أن تتيح للمطلوبين للسَّوق أن يؤجلوا الخدمة، فبالإضافة للتأجيل بداعي الدراسة والتأجيل بداعي السفر وهي الحالات الأكثر شيوعًا، هناك حالة نص عليها القانون في المادة 11 فقرة “هـ” وهي حالة المحكوم عليه طوال مدة تنفيذ عقوبته، أو الموقوف رهن التحقيق، طوال فترة توقيفه. |
صفقات تتم عند تبادل الأسرى
وعن عروض لجنة المصالحة، يقول المحامي ياسر السيد لعنب بلدي، “لم أسمع من قبل بهكذا لجنة ولا يوجد سند قانوني لها، وبالرغم من جميع التجاوزات التي يرتكبها النظام، إلا أنه يحمي نفسه بالاستناد إلى قوانين محددة، والمؤكد أن العفو الذي يصدر يشمل بعض الجرائم الشائنة التي يلتحق مرتكبوها غالبًا بميليشيات النظام”.
وباعتقاد المحامي السيد، فالأهم من هذا كله هو ما يحصل عند “تبادل الأسرى” وأضاف “أعرف أكثر من شخص تم توقيفهم بجرائم جنائية الوصف مثل التزوير الجنائي وتزوير العملة، ثم أطلق سراحهم على أساس مبادلات مع الثوار فيدرج أحد الضباط المسؤولين أسماءهم في قائمة المعتقلين، الذين سيفرج عنهم في هذه المبادلة، مقابل مبالغ مالية تدفع له من ذويهم”.
ادعى التطوع لينشق ثانية
كان يوسف يؤدي الخدمة الإلزامية، بعد تخرجه من كلية الحقوق، وانضم للثورة السورية بالخروج في المظاهرات التي كانت تسير في بلدته، دوما، كل يوم جمعة.
وأعلن انشقاقه عن قوات الأسد بعد تشكيل “الجيش الحر” وأصبح قائدًا عسكريًا.
يقول يوسف إن “النظام هو من أجبرنا على الحراك المسلح، بعد أن أصبح يقتل المتظاهرين”.
بقي يوسف حتى بداية العام 2016 يقاتل في صفوف “الجيش الحر” في دوما، وبسبب ظروف تتعلق بسلامته، على حد قوله، حاول الذهاب إلى شمالي سوريا، ولكنه اعتقل في السلمية بكمين نصب له هناك.
يروي يوسف رحلته في الأفرع الأمنية ويفتخر أنها لم تطل كثيرًا، ويعزو ذلك إلى كونه دفع مبلغًا كبيرًا من المال إلى رئيس الفرع، الذي كان يعتقله، لتتم إحالته إلى القضاء سريعًا.
“بالفعل لم يستغرق اعتقالي سوى أسبوعًا واحدًا”، يقول يوسف، ثم يضيف “بعد إحالتي إلى القضاء وإلى سجن عدرا، جاءت إلينا لجنة تدعى لجنة المصالحة، عرضوا علينا إخلاء سبيلنا مقابل التطوع في قوات الأسد، فقبلت عرضهم طمعًا بالخروج من السجن”.
ولكن يوسف كان يخطط لأمر آخر، وهو ما لم تحسب اللجنة حسابه، فبعد التحاقه بقوات الأسد، في قطعة عسكرية قرب حماة، هرب من قطعته لينضم إلى فصائل المعارضة في إدلب شمالي سوريا، ليحقق هدفه الذي تأخر بعض الشيء.
نقص عدد المقاتلين يقود النظام لسَوق الاحتياطيين
يعاني النظام في سوريا، من نقص في عدد مقاتليه، وخاصة بعد أن خفضت روسيا أعداد مقاتليها، واكتفت بوجودهم في القواعد العسكرية، وأهمها حميميم، وطرطوس.
وبعد مضي سبع سنوات على الصراع، الذي استنزف الموارد البشرية لقوات الأسد، يشن النظام حملات لسَوق الشباب للخدمة الاحتياطية، لملء الفراغ، عن طريق تعميم الأسماء على الحواجز.
ويعيش الشباب الذين بقوا في سوريا ولم تتجاوز أعمارهم 42 عامًا، خائفين من شبح خدمة الاحتياط، وهذا ما لاحظه يوسف عندما كان في السجن، “كان معنا شباب قالوا إنهم فضلوا الدخول إلى السجن، على الالتحاق بالخدمة الاحتياطية، فهناك يكون موتهم مؤكدًا”.
زوجة أحد الشباب، تحفظت على ذكر اسمها، تقول رفض زوجي السفر خارج سوريا، بالرغم من إلحاحنا عليه، خوفًا عليه من السَّوق إلى الخدمة الاحتياطية، لكنه رفض السفر حتى لا يتركنا وحدنا، وبعد أن أخبره أحد الجيران أن اسمه مدرج في لائحة الاحتياط، اضطر للسفر عن طريق التهريب، خوفًا من تعميم اسمه على الحواجز.
وتنتشر إشاعات من حين لآخر عن رفع سن الاحتياط، ما يشكل رعبًا للشباب الذين هم على الأغلب أرباب أسر، ولكن مدير شعبة التجنيد ينفي ذلك، ويعود الخوف بعد الخسائر التي تُمنى بها قوات الأسد على عدة جبهات، كمعارك مطار “أبو الظهور” في إدلب و”إدارة المركبات” شرق دمشق، من شن حملات سَوق جديدة، خاصة في مناطق التسويات والمصالحات.