الثقوب السوداء تستوطن في سوريا
إبراهيم العلوش
ستيفن هوكنغ، عالم الفيزياء الفلكية، شخّص الثقوب السوداء بكتابه الشهير موجز تاريخ الزمن، ووصف الثقوب السوداء كبؤر لامتصاص القوى والطاقة، وابتلاعها بشكل مكثف، فلو افترضنا أن إنسانًا مرّ في محيط ثقب أسود فإن قوة الجذب تجعل جسده كالمعكرونة حيث يتطاول باتجاه الثقب الأسود بشكل رهيب، ولا ينتظر تمزق الجسد، بسبب فرق القوى الهائل الذي يتعرض له بين رأسه و قدميه.
وإذا كان هوكنغ يتحدث عن الفيزياء والفضاءات الفلكية وثقوبها السوداء، فإن النظام السوري عبر مسيرة التعذيب والتنكيل بالشعب السوري، شكّل ثقبًا أسود في حياة السوريين، وينشر وباءه اليوم عبر الحواجز، وعبر الميليشيات الطائفية التي استدعاها لطرد الشعب السوري من أرضه، وابتلاع مقدرات الناس، وأرزاقهم، وامتصاص ما جنوه بعملهم، وبجهدهم، وما تراكم من جهود الأجيال السورية منذ عهد الاستقلال.
الثقب الأسود يشكل انحدارًا للطاقة، ومقبرة لها ماتزال مجهولة المصير بالنسبة لعلماء الفيزياء، أما حقد النظام الأسود فقد صار واضح المعالم والمصير، حيث تبرعم على شكل تنظيمات طائفية وجهادية، تشترك مع النظام باحتقار الإنسان السوري وتخوينه وتكفيره، تمهيدًا لتبرير ابتلاع مقدراته وربما إفنائه، واستدراج شعوب، وطوائف، ومقاتلين من مختلف الأمم المهزومة، والعائشة على الأوهام، للاستيلاء على سوريا وعلى أهلها.
والعقيدة التي يشترك النظام ومؤسسو داعش باعتناقها تصور قائد المسيرة كصاحب مداجن للصيصان، وهو الذي يأمر بذبحها، وبتوالدها، أوباستبدالها بصيصان أخرى، وكل ما يقال في وسائل إعلام النظام عن الشعب العظيم، وعن الحرية، والاشتراكية، ما هو إلا كلمات كريهة بالنسبة لهم، ولكن لا بد منها لاصطياد الناس، وتكبيل عقولهم، وتجنيدهم، وتستعمل التخوين كثقب أسود لتدمير المجتمع وامتصاص قواه، وتفرش محيطه بنظريات المؤامرة، واستهداف عظمة القائد وأهدافه النبيلة.
تعتبر داعش النظير الكامل للنظام، ربما لأن معظم مؤسسيها من ضباط البعث العراقي، الذين نهلوا من نفس العقيدة البعثية، التي تحتقر البشر، وترفع الشعارات على حساب الناس وكرامتهم، وتستعمل سلاح التكفير كثقب أسود لابتلاع المجتمع، ويحاط الثقب الأسود بحقول من الفتاوى الحقودة، وبالممارسات الوحشية التي تسوق الناس إلى داعش بالقوة، وبالحاجة التي أفقرت الناس وهمشتهم، وصاروا غير مبالين بمصيرهم.
بعد خروج داعش من الرقة، عاد الكثير من الناس إلى بيوتهم، ولكنهم وجدوا واقعًا مغايرًا للواقع الذي تركوا مدينتهم عليه، فقد أكمل التحالف الدولي مسيرة النظام بتدمير البيوت، والبنى التحتية، وكانت قوات “البي كي كي” ورديفتها “قسد” ثقبًا أسود جديدًا يساهم بتدمير بلادنا مع القوى الأجنبية التي تشكّل مجرة من الثقوب السوداء.
لكن داعش ترك لأهل الرقة هدايا في بيوتهم وفي محلاتهم وفي شوارعهم، إذ نشرالدواعش الألغام في الغرف وفي الأدوات المنزلية وفي البطانيات وفي ألعاب الأطفال، على شكل قنابل ليزرية وأخرى بدائية.. لقد زرعوا آلاف الأطنان من الألغام التي تستهدف الناس العائدين إلى بيوتهم.
السؤال هو، من أين استمد داعش كل هذا الحقد ليزرع مدينة كان يقطنها حوالي مليون نسمة من أهلها ومن النازحين واللاجئين، من أي معين يستقي هؤلاء الدواعش كل هذا الصبر، وكل هذا الدأب والعمل المتواصل لتلغيم كل تفاصيل الحياة، وكل متطلباتها وأدواتها.. هذا الثقب الأسود للحقد ما هو منبعه وما هو مصبه، هل نتكلم عن الجاهلية، لا.. الجاهلية مجرد عصر ساذج وبدائي ولا يحمل جزءًا من مليون من هذا الحقد على البشر، هؤلاء الدعاة والفقهاء من أين استمدوا روح الدمار الشامل للبشر، كيف بنوا ثقوبهم السوداء وركبوها في نفوسهم بأناة وصبر وبفاعلية مذهلة؟
لقد حوّل النظام وداعش مفهوم الثقب الأسود من كونه بؤرة فلكية معزولة، إلى ثقب أسود في النفوس، وفي الأخلاق، لقد نشروا حقدهم كالطاعون، ووزعوا على مؤيديهم كل أصناف الوحشية.
كيف لنا أن نتخلص من هذا الوباء وهذا الحقد، كيف لنا أن نرفض بناء بؤرة الحقد الأسود في نفوسنا، ولا نتركها تسيّر حياتنا؟
كيف نستأصل نمو هذا السرطان المنشغل بالانتقام من الناس وتحقيرهم، كيف نجعل معاناتنا الكبيرة ملهمة لنا، وأداة لتفجير قوانا وقدراتنا لتحدي هذا العالم، وعدم الانجذاب الى أحقاده المدمرة التي ستجعلنا مجرد كائنات عمياء. فنحن نصرّ على معاقبة المجرمين والمتورطين بهذه التراجيديا السورية، ولكن يجب ألا ننجر إلى ثقب الحقد الأسود أبدًا.
ستيفن هوكنغ خليفة اينشتاين، هو رجل معوّق لا يسمع، ولا يتكلم، إلا عبر الأجهزة الآلية التي ابتكر هو نفسه برامج بعضها من أجل أن يستطيع أن يستمر في الحياة، متحديًا وضعه الصحي الصعب، كان هذا العالم من أوائل من أيد الشعب السوري وثورته من أجل الحرية والكرامة، وذكر قضية الشعب السوري ومعاناته في محاضراته التي تقام في ملاعب كرة القدم، لقد استشعر خطر الثقوب السوداء التي بناها النظام لشعبنا، وتلته داعش لتوزع ثقوبها السوداء على الدعاة ومرتزقة الجهاديين من أجل ابتلاع البشر.
هل قاده حدسه العلمي إلى تأييد الشعب السوري، بسبب استشرافه لهذه الثقوب السوداء التي انتقلت مفاهيمها من الفيزياء الفلكية إلى علم الاجتماع وصارت ظاهرة اجتماعية وتاريخية في محاكاة بين الطبيعة والمجتمع؟
الثقوب السوداء في المجتمع تدمّر الكرامة الإنسانية، تمامًا مثلما تدمر الثقوب السوداء الفلكية، النجوم والكواكب وتحيل طاقاتها الهائلة إلى العدم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :