أشباح فوق حميميم

  • 2018/01/10
  • 10:51 ص
عمر قدور

عمر قدور

عمر قدور – المدن

من خارج النص المرسوم أتى هجوما الأسبوع الماضي على قاعدة حميميم، باستخدام طائرات مُسيَّرة عن بعد، فالقاعدة الروسية بعيدة عن إمكانية استهدافها من قبل أقرب نقطة للفصائل التي تقاتل تنظيم الأسد، ولم يبادر أي فصيل معروف سابقاً إلى تبني العمليتين. الأخبار التي أوردها المرصد السوري لحقوق الإنسان عن فصيل إسلامي نفّذ العملية ينقصها الإثبات، ولا يكفي نسبها إلى مصادر موثوقة لا يعلم بها سوى المرصد! أما حركة “أحرار العلويين” التي تبنت الهجومين فهي على الأرجح اسم مزيف، غايته قد لا تتوقف عند التبني الوهمي لما حصل.

فتحت هذا الاسم نشرت الحركة “الغامضة” خبر اجتماع لها بحضور وزير الدفاع السابق علي حبيب، ولا يمكن فهم إشهار اسم الرجل على هذا النحو إلا بقصد إحراقه بوصفه أحد الأسماء التي جرى تداولها لخلافة بشار، وقيل أنه خيار مقبول من المعارضة لما يُنسب إليه من تحفظ على زج الجيش في مواجهة التظاهرات، الأمر الذي أدى بحسب تلك الإشاعات إلى إعفائه من منصبه بعد بدء الثورة.

طائرات “درون” المستخدمة في الهجومين ليست سلاحاً يعزّ الحصول عليه، لكن شاع استخدامها مؤخراً من قبل حزب الله والميليشيات الشيعية التي تقاتل في سوريا، واستخدمها بكثافة الحوثيون في اليمن، بينما اقتصر استخدامها من فصائل تقاتل قوات الأسد على مهام الاستطلاع والتصوير المرافق لبعض الاقتحامات. غالبية التكهنات في ما خص الهجوم على حميميم تذهب إلى أنها رسالة بينية في معسكر تنظيم الأسد وحلفائه، غايتها إفهام موسكو عدم امتلاكها السيطرة المطلقة على القرار، فضلاً عن سهولة استهداف وجودها في سورية عندما لا يعود مرضياً للشركاء الآخرين، بخاصة الشريك الإيراني من دون استثناء محاولات احتجاج من قبل بشار نفسه الذي أهين قبل مدة قصيرة في القاعدة ذاتها.

بالتزامن مع الهجومين كانت الميليشيات الإيرانية والمحلية تتقدم في ريفي إدلب الجنوبي والشرقي، مدعومة بقصف عنيف من الطيران الروسي، وتمكنت أيضاً من فك الحصار عن “إدارة المركبات” شرق دمشق، ومن المتوقع ازدياد ضراوة حربها على الغوطة الشرقية بأكملها. التقدم السريع في الريف الإدلبي يؤشر إما على حال ضعف الفصائل المتمركزة فيه، أو على استجابتها لتفاهمات خارجية تنص على تسليم تلك المناطق.

في كل الأحوال توحي المعطيات الميدانية بأن التنسيق على أشدّه بين موسكو وطهران والأسد، وأن هذه الأطراف متفقة على المرحلة القادمة مما سُمي مسار خفض التصعيد، والتي يمكن التكهن بأنها تعني الانقضاض على المناطق المشمولة بها من دون إشراف خارجي مباشر، أو بمعنى آخر الإبقاء فقط على مناطق تقاسم النفوذ. وإذا كان ثمة خلاف بينيّ، هو الذي أدى إلى استهداف قاعدة حميميم، فمن المرجح أنه يتعلق بترتيبات ما بعد استعادة السيطرة على المناطق المستهدفة، وعلى نحو خاص الترتيبات السياسية التي تعدّ لها موسكو من خلال مؤتمر سوتشي المقبل. وكي لا يذهب بنا الظن بعيداً لا توجد مؤشرات على تغير في الموقف الروسي المعلن حتى الآن، إلا أن المعرفة بتنظيم الأسد كفيلة بتوضيح رؤيته ونهجه. فإذا كانت موسكو، على سبيل المثال، تناور من أجل المشاركة في السلطة على قاعدة منحه 90% من الصلاحيات مقابل10% لمعارضة مقبولة منها فهو سيحاول الحصول على نسبة أعلى، بالأحرى لن يتوقف جشعه حتى الحصول على كل شيء. هذا الفارق النسبي بين تنظيم الأسد وحليفه هو ما قد يدفع الأول، أو جهات تأتمر بتعليمات طهران، إلى إفهام الروس أن وجودهم في سورية رهن بالقبول ببشار وميليشياته بلا قيود.

لكن، من وجهة نظر أخرى، تبدو الجهة التي استهدفت حميميم “من غير أن تقصد” وكأنها تقدّم درساً لتلك الفصائل التي تنهزم الآن على أكثر من جبهة. النيل من هيبة الروس بهذه الطريقة المؤثرة والبسيطة، والتي لا تحتاج إمكانيات ضخمة باستثناء القدرة على المرونة والتخفي، تجوز مقارنته بالحجم الضخم من المعدات الذي تملكه تلك الفصائل، وهي معدات غير قادرة على مجاراة القصف الروسي والتصدي له، بل كانت هزيمتها سبباً لتفاخر بوتين ورجالاته بالتفوق العسكري الروسي مع أن قواتهم لم تواجه خطراً جدياً على الإطلاق. الأشباح التي حلّقت فوق حميميم، مع الكلفة المادية والمعنوية للاستنفار الذي تلا الهجومين، تجوز مقارنتها بتلك المواقع المستباحة لعشرات الفصائل وهي عديمة الحيلة إزاء مختلف القذائف التي تسقط عليها من السماء.

الدرس الذي تقدّمه الأشباح فوق حميميم أنه من الصعب مقاومة عدو متفوق في مواجهة مباشرة وحرب نظامية، وعندما لا يمتلك هذا العدو أي رادع أخلاقي عن استهداف المدنيين “أو يملك الدوافع لاستهدافهم” فستكون حرب المدن ذات كلفة بشرية ضخمة في صفوف المدنيين. هذا يصحّ على نحو مضاعف على الفترة التي أعقبت التدخل الروسي، مشفوعاً بلامبالاة دولية أو تفاهمات مع الكرملين، حيث أنهى هذا التدخل مرحلة استنزاف قوات الأسد والميليشيات الشيعية، وكان واضحاً منذ تسليم حلب أن القتال بصيغته الحالية أصبح من الماضي، وأنه واقعياً لم يعد يملك مقومات الصمود بعد فقدان أدنى احتمال للانتصار، أو أن الاحتمال الوحيد لبقائه هو انقلاب دراماتيكي غير منتظَر في المواقف الدولية. وهنا أيضاً تقدّم الأشباح الدرس الذي ينص على أنه كلما ازدادت متطلبات العسكرة، من عتاد وطرق إمداد ورواتب، كان محتماً فقدانها القرار المستقل لصالح من يملك ذلك كله، بخلاف تجارب مقاومة أكثر فقراً وأكثر استقلالية.

إذا ذهبنا أبعد؛ لعل واحداً من دروس هجومي حميميم وأية عملية مشابهة لهما هو تجاوز ذلك الجدل السوري بين من يرفض الخيار العسكري بالمطلق وبين من يتبناه بالمطلق، فالمواثيق الدولية تحسم حق الشعوب في كافة أشكال مقاومة الاحتلالات الداخلية والخارجية، والعبرة هي في كلفة المقاومة وجدواها، وكلما تضاءلت الكلفة على أنصارها وازدادت على عدوها كانت المقاومة أنجح. وما لم يكن هناك حل عادل يحترم حقوق السوريين، بإقصاء مجرمي الحرب إن لم يكن بمحاكمتهم، سيُبقي الواقعُ البابَ مفتوحاً أمام جميع الاحتمالات، بما فيها مسار مختلف لاستهداف قوى الاحتلال. قد يُكشف لاحقاً عن أن أول عملية نوعية استهدفت قاعدة الاحتلال الروسي كانت رسالة من الحلفاء، وهذا لا يمنع من يشاء اعتبارها درساً مجانياً من الأعداء بعد الكلفة الباهظة لخذلان الأصدقاء.

 

مقالات متعلقة

صحافة عربية

المزيد من صحافة عربية