عنب بلدي – العدد 135 – الأحد 21/9/2014
لايزال العالم بأسره لا يلقي بالاً لكلّ أصواتِ الصراخ المفزعةِ الآتيةِ من مخيم اليرموك ، ولا يكترث بحصارٍ خانق يصلحُ لكتابةِ أقسى روايات الأدب لما فيه من تصوير عميق لمعاناة أهله. ربما لن تحصدَ تلك الروايات جائزةَ «نوبل» للأدب، أو جائزة «بوكر» الأدبية، لكنها حتمًا ستحصدُ أكثرَ جوائز الأخلاق قيمة، إذا ما وصلتْ لأصحاب الآذان المسدودة عنوة عنهم، لتجعلهم مأسورين في ظلِّ أحداث تلك الروايات، علَّهم يحرّكون ساكنًا دعما لهؤلاء المحاصرين .
في غمرةِ صمتِ العالم عنْ تلكَ البقعة الجغرافية المنسيةِ المحاصرة الواقعةِ جنوبَ العاصمة السورية «دمشق»، تتفاقمُ معاناة المحاصَرين مع كل دقةِ عقربِ ساعةٍ تمرُّ وسطَ أحوال معيشية لا توصف بالأسوأ فقط، وإنَّما بالكارثية، جرَّاء الحصار الذي لمْ يُشهد له مثيلٌ في القرن الحادي والعشرين. كان قد بدأ منذ يوم 17/12/2012 على شكل حصار جزئيٍّ ليتبعه بعد ذلك حصارٌ كليٌّ بدءاً من 17/7/2013 ليشتدّ على أهالي المخيم بعد انتهاءِ المواد الغذائيةِ الموجودة داخله، فتوقفت الأفران عن العمل وأصبح رغيفُ الخبز حلمًا لأبناء المخيم من المستحيل تحقيقه، وكذلك أغلقت جميع المحلات أبوابها، في ظلّ منع ٍ تام ٍلإدخال المواد الغذائية، وبدأ الحصار يطرح نتائجه على مرأى ومسمع العالم أجمع دون تحرّك فعليّ لرفع الحصار الجائر بحق أبنائه، الذي أودى بحياة أكثر من 170 شخصًا ارتَقوا جائعينَ إلى السماء في فترة زمنية لا تتجاوز ثلاثة أشهر، ولم يكن المخيم أثناء الحصار بمنأى عن التجارب العسكرية، حيث جُربت به جميع أنواع الأسلحة الصاروخية والمدفعية وأنواع الذخائر والقصف الجوي من طائرات الميغ إلى الهوليكوبتر مما أسفر عن تغيّر بعض من جغرافية المخيم من خلال اتباع سياسة تدمير واغتيال ممنهجة لمعالم المخيم، والتي تشهد على نكبة اللاجئين الفلسطينيين من سكانه. ولم يقتصر الحصار على هذا فحسب، بل شمل أيضًا منعًا تامًا لإدخال المواد الطبية اللازمة وقصفًا للمشافي والمراكز الطبية، مما زاد من المعاناة في معالجة الجرحى والمصابين جرّاء القصف وأدى إلى ارتفاع عدد الشهداء في المخيم.
واستمر الحال على هذا المنوال للأشهر السبعة الأولى من الحصار، وبعد صراخ طويل لأهالي المخيم استطاعت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الاونروا) أن تسمع الأصوات المناجية لها وقامت بإدخال أولى قوافل المساعدات الغذائية في 24/2/2014 والتي كانت عبارة عن شاحنتين محملتين بالمواد الغذائية الأساسية، في محاولة خجولة منها لإبقاء ما بقي من سكان المخيم على قيد الحياة بعد أنّ أنّهكهم الجوع وباتوا «كالأشباح» على حدّ تعبير مدير الوكالة «فيليبو غراندي»، ليتبعه بعد ذلك توزيع غير منتظم للمواد الغذائية من قبل عدة جهات منها حملة «الوفاء الأوروبية» و» منظمة التحرير الفلسطينيية»، حيث بلغ عدد «الكراتين» الغذائية الموَزعة منذُ بداية الحصار نحو 40 ألف كرتونة، وهو عدد ضئيل جدًا لا يتناسب مع حجم الكارثة الواقعة، وقد تحولت حياة المحاصرين منذ تلك الفترة إلى اصطفافِ طوابير طويلةٍ تكاد لا تنتهي ليحصلوا على «كرتونة» مساعداتٍ إن حالفهم الحظ، ثمَّ يعودون أدراجهم نحو شوارعهم الخاوية، ليبقى هذا الحصار قابضًا على رقاب الفلسطينيين لا على كرامتهم.
تبدو السماء فوق المخيم ومنذ أول أيام دخوله في الحصار خالية إلا من بعض غيوم الأمل التي ينظرُ المحاصرون فيها خيرًا دام على انقطاعه أشهراً طويلة، فما إن يُسمع في الخفاء أصوات تعلو بشأن هدنةٍ إنسانيةٍ جديدةٍ حتى يخرج الجميع إلى الملأ يهتفون ويعبِّرون عن فرحتهم التي سريعًا ما تتلاشى كملاك عابر ضل طريقه، وفي كلِّ مرةٍ يتم التذرع بأسباب غير مبررة لاستمرارِ هذا الحصار، منّها عدمُ التزام الأطراف العسكرية بتنفيذ البنود التي يتم الاتفاق عليها من فتح الطريق لإدخال المساعدات العاجلة أو عودة الأهالي أو إطلاق سراح المعتقلين مرورًا بتشكيل لجنة عسكرية لحماية حدود المخيم والعديد من النقاط الأخرى التي من شأنها أن تعيد وجه الحياة للمخيم، حتى باتَ الأملُ بفك الحصار ضئيلًا جدًا في ظلّ نسف جميع هذه الهُدن.
ورغم ذلك لم يتوقف الأهالي والناشطون في المخيم عن إطلاق المبادرات والحملات الإعلامية، لإعادة النظر في ملف المخيم الذي أصبحَ بمرور الأيام منسيًا وغائبًا تمامًا عن أولويات أصحاب القرار بالتعامل مع ملف المخيم على أنه «كرتونة» مساعدات لا أكثر، وهذا ما يرفضه سكان المخيم الذين صمدوا في منازلهم رغم انعدام الحياة الإنسانية الكريمة، فماذا يفعل المحاصرون غير الحملات والصراخ إذا ابتلى الله هذه الأمة بقادة ليس لهم إلا الانحناء والانهزام.
وقد كانت أخر تلك الحملات حملة «بدنا نعيش» لإعادة لفت الأنظار للأوضاع المأساوية داخل المخيم، ولإيجاد حل لهذه الأزمة ساعين إلى محاولة غرس زهرةِ بنفسج جديدة وسط حقول من الأشواك، علَّها تغيّرُ من هذا الواقع المرير شيئًا، متربصين بالنظر إلى السماء خوفًا من صاروخٍ قادمٍ، ومنتظرينَ غيوم الفرج أنْ تمطرَ لتنمو تلك الزهرة الصغيرة رغم حجم اليأس ومرارة الحصار .