من يخنق أجراس المسيحيين في سوريا؟
عنب بلدي – رهام الأسعد
خرجت الأقليات الدينية في سوريا، والمسيحية تحديدًا، عن دائرة الضوء خلال سنوات النزاع السبع الماضية، وسعت كل منها على حدة للنأي بنفسها عما يدور في بلد تسوده الأكثرية المسلمة، مع تحذيرات من تجاوزات “طائفية” وصلت حد التشدد الديني بين طرفي الصراع، وانتشار الترهيب من جماعات إسلامية “متطرفة”.
لم يتجاوز عدد المسيحيين في سوريا، قبل عام 2011، 2.2 مليون مواطن، يشكلون ما يزيد عن 10% من مجمل سكان البلد، بحسب الإحصائيات الرسمية، محققين توازنًا في المجتمع السوري باعتبارهم جزءًا رئيسيًا من مكونات الشعب السوري رغم توزعهم مناطقيًا على مدن وبلدات محددة تسودها الغالبية المسيحية، لتصبح السمة الدينية الغالبة على المدينة تُعرف من اسمها.
اليوم ومع التغيرات الديموغرافية التي طرأت على المشهد السوري، تشير الأرقام إلى انخفاض عدد المسيحيين في سوريا إلى ما يقارب النصف، بين مهجر خارج البلد ومقتول بفعل النزاع، وذلك وفق ما ورد على لسان قسطنطين دولغوف، مفوض الخارجية الروسية لشؤون حقوق الإنسان والديمقراطية، خلال مؤتمر “دور الأديان في العالم المعاصر”، عام 2016.
دولغوف قال، مستندًا إلى بيانات الخارجية الروسية، إن “وضع المسيحيين في سوريا والعراق يبقى صعبًا للغاية، وتابع “انخفض عدد المسحيين في سوريا منذ بداية النزاع المسلح هناك من 2.2 مليون إنسان إلى 1.2”.
إلا أن حكومة النظام السوري لم تصدر أي إحصائيات رسمية بعد حول التغيرات التي طرأت على أعداد المسيحيين في البلد.
حين أصبحت مخاوف المسيحيين “مبررة“
في زخم المواقف السياسية التي اقتحمت حياة السوريين بعد المطالب الشعبية بإسقاط النظام السوري عام 2011، تبنى مسيحيو سوريا موقفًا سياسيًا محايدًا، وعدا عن مشاركاتهم في الاحتجاجات في مناطق كانت معاقل للثورة، برز تأييد نسبة كبيرة منهم للنظام السوري بعد دخول ما يسمى تنظيم “الدولة الإسلامية” على خط النزاع، عام 2013.
وطغت المخاوف على حياة مسيحيي سوريا من جماعات متطرفة تتحدث باسم الدين، قد تحكمهم وتقيد حرياتهم في ممارسة الشعائر الدينية، مستندين بذلك إلى التجربة الإيرانية والأفغانية، التي ترفض ضمنيًا التنوع الديني وتنبذ حريات الأديان.
دير الزور والرقة كانتا المحافظتين الأسوأ حظًا على مسيحيي سوريا، بعد اتسامهما بسواد تنظيم “الدولة” الذي خير المسيحيين هناك بين اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو ترك منازلهم تحت طائلة القتل، ما أدى إلى هجرة شبه تامة للمسيحيين من قراهم.
وتشير الإحصائيات القديمة إلى وجود ما يقارب أربعة آلاف مسيحي من أصل 500 ألف مواطن في محافظة دير الزور، التي كانت أكبر معاقل التنظيم في سوريا، فيما يقدرعدد العائلات المسيحية في الرقة، التي اعتبرها التنظيم عاصمة لـ “الخلافة”، بما يزيد عن 1500 عائلة يشكلون 1% من مجمل سكان المدينة التي يقدر عدد سكانها بـ 300 ألف نسمة.
مخاوف المسيحيين بداية الثورة السورية باتت أمرًا واقعًا اليوم، بعد أن كانت “غير مبررة” حين لم يكن ثمة “جهاديون” في سوريا، وحين كان النظام السوري الجهة الوحيدة التي تمارس عنفًا ضد المدنيين بداية الحراك السلمي.
إلا أن الصحفي السوري جوني عبو يرى أن مخاوف مسيحيي سوريا أخذت منحيين، الأول هو خوف من الديكتاتورية “اللادينية”، والثاني هو خوف من التطرف المتمثل بجماعات دينية متشددة.
عبو أضاف، في حديث إلى عنب بلدي، أن الديكتاتورية والتطرف “وجهان لعملة واحدة” بالنسبة للسوريين على اختلاف طوائفهم، مشيرًا إلى أن مخاوف المسيحيين من الجماعات الإسلامية المتطرفة مبررة كون المخاوف نفسها موجودة لدى المسلمين المعتدلين ولدى جميع أطياف السوريين.
رغم ما يشاع عن تبني مسيحيي سوريا موقفًا مؤيدًا للنظام الحاكم في سوريا، يرى عبو أن المسيحيين حالهم حال جميع السوريين، بعضهم مؤيدون وبعضهم معارضون وآخرون التزموا الحياد، إلا أنه لم ينكر أنّ توجه معظمهم من مناطق المعارضة إلى مناطق النظام جاء انعكاسًا لخوفهم من التطرف أيًا كان شكله.
وقال “التطرف سواء كان دينيًا أو ديكتاتوريًا يمثل عبئًا على البشرية، الناس غالبًا ما تبحث عن الوسطية في كل شيء”.
لماذا لم تطمئن المعارضة السورية الأقليات؟
مدنيًا، لم تستطع المعارضة السورية استقطاب السوريين من المسيحيين، أو غيرهم من الأقليات، عبر خلق جو من التعايش الديني على الأراضي الخاضعة لسيطرتها، رغم عدم اعتمادها منهجًا متشددًا دينيًا شبيهًا بالتجربة “الداعشية”.
وتكاد معظم مناطق المعارضة تخلو من غير المسلمين، أو بالأحرى من غير أبناء الطائفة السنية، باستثناء بعض قرى الجنوب السوري، الخاضعة لسيطرة فصائل “الجيش الحر”.
في إدلب، المعقل الأكبر للمعارضة السورية، والتي كانت تحوي حاضنة مسيحية كبيرة تلاشت في سنوات الحرب الماضية، اتخذ المسيحيون هناك قرارًا بالنأي عن النزاعات والنزوح عن قراهم إلى مناطق النظام “الأكثر أمنًا” بالنسبة لهم، وأغلبهم توجهوا خارج القطر، حتى أفرغت المحافظة من المسيحيين.
قرى القنية واليعقوبية والجديدة في ريف جسر الشغور التابعة لمحافظة إدلب اتسمت في الماضي بالغالبية المسيحية، اليوم ومع سيطرة فصائل المعارضة حافظت نسبيًا على التنوع الديني فيها، إلا أن القلة المسيحية الباقية فيها تفضل عدم إظهار تعاليمها الدينية علنًا، وفق ما ذكرت مراسلة عنب بلدي هناك.
أما الوضع في مناطق المعارضة بالجنوب السوري فلا يختلف كثيرًا عن شماله، باستثناء قرية خربا الواقعة بين السويداء ودرعا والخاضعة لسيطرة “الجيش الحر”، والتي مازالت أجراس الكنائس تقرع فيها، وحافظت على أبنائها المنتمين للدين المسيحي، وفق ما نقل مراسل عنب بلدي في درعا.
خربا تجسد اليوم مثالًا للتعايش الذي كان مسيحيو سوريا يتمنونه بعد الثورة السورية، خاصة أنها تشهد حاليًا احتفالات أعياد الميلاد، المشهد الذي غاب تمامًا عن مناطق المعارضة، منذ عام 2011، تلك المناطق التي تحولت فيها الكنائس إلى معاهد تعليمية ومراكز لتوزيع المساعدات الإنسانية.
أما سياسيًا، حاولت المعارضة السورية استقطاب النخبة من المسيحيين الذين أيدوا الثورة، وذلك عبر إشراكهم في الائتلاف السوري وفي الهيئة العليا للمفاوضات وبقية مؤسساتها السياسية.
وبرزت في هذا الصدد أسماء عدة لسياسيين معارضين من أبناء الديانة المسيحية، ومنهم جورج صبرا وميشيل كيلو وعبد الأحد صطوف، وغيرهم من المناهضين لنظام الحكم.
جوني عبو، الذي فضل التحدث لعنب بلدي باعتباره مواطنًا سوريًا قبل أن يكون مسيحيًا، قال إن المعارضة لم تعمل على جلب الأقليات الدينية لطرفها بسبب ضعف في الأداء وتفوق النظام السوري في استثمار تلك الأقليات.
كما فسر نزوح المسيحيين عن مناطق المعارضة المعتدلة بأنه ترجمة لشعور الأقليات بأن لا جدوى من التحارب، بالإضافة إلى شعورهم أن حظوظهم لن تكون زائدة عن ذي قبل.
وتابع “كنت أتمنى أن تعطي المعارضة السورية رسالة أقوى تطمئن بها جميع أطياف الشعب السوري بأن لا طائفية مستقبلًا في سوريا”.
المسيحيون ورقة رابحة بيد النظام
لإثبات شرعية وأحقية وجوده على رأس الحكم في سوريا، سعى بشار الأسد إلى تصوير نفسه للغرب على أنه حامي الأقليات الدينية والعرقية، وبدا تقربه من أبناء الدين المسيحي واضحًا خلال السنوات الماضية، عبر استخدامه لهم كورقة يرى البعض أنها رابحة، مع توجه الغرب نحو محاربة “التطرف الديني”.
المشهد الذي غاب في مناطق المعارضة حضر بقوة في مناطق النظام، عبر زيارات الأسد “العائلية” المتكررة إلى الكنائس والأديرة وتكريمه لرجال الدين المسيحيين، في محاولة منه لإيصال صورة “المجتمع السليم المتجانس”، بحسب تعبيره، في المناطق الخاضعة لسيطرته.
كما حاول إرضاء هذا الطيف من السوريين بمنحهم مناصب في حكومته، كان آخرها تعيين حمودة الصباغ، المسيحي، رئيسًا لمجلس الشعب السوري، مطمئنًا المسيحيين بمكانة سياسية في مستقبل سوريا.
اليوم تشهد مناطق النظام وخاصة دمشق وحلب احتفالات عامة بأعياد الميلاد، كما هو الحال كل عام، المشهد الذي لفت الإعلام الغربي معتبرًا أنه تحدٍ من المواطنين السوريين الذين استطاعوا الوقوف في وجه الحرب وتبعاتها، تحت سقف النظام الذي لم تر كثير من الدول الحليفة بديلًا “شرعيًا” عنه حتى الآن.
مسيحيون لاجئون.. ومساعٍ لإفراغ الشرق الأوسط
قضية اللجوء كان لها وقع في حياة السوريين على اختلاف مذاهبهم، دون تمييز بين مسيحيين ومسلمين، إذ قدرت الإحصائيات عدد اللاجئين المسيحيين بنصف مليون لاجئ من مجمل عدد اللاجئين السوريين الذي تخطى حاجز الخمسة ملايين، متوزعين في بلدان عدة حول العالم.
المجتمعات الأوروبية التي تطبق القانون المدني وتحترم حق الإنسان في حرية المعتقدات جذبت السوريين مسيحيين ومسلمين نحوها، إلا أنه ومع انتشار معتقد أن سوريا أصبحت منبعًا للإسلاميين المتطرفين سادت أفكار بأن اللاجئين المسيحيين يحظون بحالة استثنائية وتسهيلات للإقامة في أوروبا وكندا والولايات المتحدة.
المنطق هنا يقول إن الحكومات تسرع في قبول طلبات لجوء المسيحيين كون ذلك يوفر عليها عناء التأكد من أن الشخص الذي ينوي اللجوء على أراضيها غير “متطرف”، خاصة مع الهجمات “الإرهابية” التي تعرضت لها أوروبا وتبناها تنظيم “الدولة الإسلامية”، المتمركز في سوريا والعراق.
ومع ذلك لم تعلن الدول الأوروبية بشكل صريح عن تفضيلها اللاجئين المسيحيين عن غيرهم، سوى مطالب متكررة بحماية الأقليات الدينية والعرقية في سوريا.
وفي هذا الصدد قال اللاجئ السوري في ألمانيا عمر شهاب إنه لمس امتيازات عدة حصل عليها اللاجئون السوريون من الدين المسيحي في أوروبا، سواء فيما يخص سرعة الحصول على حق اللجوء أو مدة الإقامة على أراضي الاتحاد الأوروبي.
إلا أن الحكومة الألمانية التي استقبلت ما يزيد عن نصف مليون سوري تقول إنها فتحت أبوابها أمام السوريين على أساس الحاجة الإنسانية وليس على أساس ديني طائفي، فيما يرى عمر شهاب أن الأولوية للمسيحيين ليست فقط في مؤسسات الحكومة بل عند أرباب العمل الألمان الذين يقدمون عروض العمل للاجئين المسيحيين قبل المسلمين، من وجهة نظره.
أما اللاجئ السوري جيمي (طلب عدم ذكر كنيته)، فيقول إنه لم يحصل امتيازات إضافية، هو أو أحد معارفه في ألمانيا، مشيرًا إلى تعقيدات عدة طالت حياة السوريين هناك بغض النظر عن دياناتهم.
وقال جيمي لعنب بلدي إن الامتيازات الأوروبية تُقدَّم للاجئين على أسس عدة أهمها اللغة والمهنة والشهادة العلمية، بصرف النظر عن المذهب الذي ينتمي له اللاجئ.
ولكن التصريح الأكثر دلالة بهذا الصدد هو لوزير النازحين اللبناني، معين مرعبي، حين أشار إلى أن برامج الأمم المتحدة لإعادة توطين اللاجئين السوريين من لبنان إلى الدول الغربية أعطت الأولوية للمسيحيين من السوريين.
وخلال استقباله منسقة شؤون الهجرة واللاجئين السويدية، نيكولا كليس، في تشرين الأول الماضي، قال المرعبي إن تركيز الدول الغربية على اللاجئين المسيحيين دون سواهم من شأنه “إفراغ الشرق من المسيحيين”.
وأضاف حينها أن “المسيحيين هم أساس هذا الشرق، ووجودهم فيه غنى ومكسب للبنان بشكل خاص، وللدول العربية بشكل عام”، إلا أن الأمم المتحدة التي تبنت برامج عدة لإعادة توطين السوريين من الشرق الأوسط لم تنكر ولم تثبت عكس ما قاله الوزير اللبناني.
وبالحديث عن مستقبل سوريا، بعيدًا عن الجهة التي ستتولى زمام الحكم، من المتوقع أن يتركز الاهتمام على من تبقى من أبناء الأقلية المسيحية للحفاظ على توازن المجتمع السوري، وسط دعوات لدعم الكنيسة وخلق توافق بين الأديان المختلفة داخل البلد.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :