من هو الخائن في سوريا؟
أطفال مخيم للنازحين في إدلب يتضامنون مع الطفل كريم الذي فقد عينه وأمّه إثر قصف النظام (غيتي)
من هو الخائن في سوريا؟، قد يكون سؤالاً يستحق الوقوف عنده. بل قد يكون السؤال، هل يمكن تعريف الخيانة بالأساس؟، وهل يمكن تأسيس فهم موضوعي ل”الخيانة”، يُخلّص هذا التوصيف من حالة الاستخدام السياسي والدعائي؟
كان الأسبوع الأخير حافلاً بتبادل توصيف “الخيانة” بين كثيرين من السوريين. بشار الأسد وصف فريقاً من الأكراد بالخونة. وردّ هذا الفريق معتبراً إياه ونظامه، أحد تعاريف الخيانة.
توصيفات الخيانة في حالة الأسد، وربما في حالة الفريق الكردي الذي ردّ عليه، كانت فوقية ونخبوية. فمن يعارض مصالح الفرد أو النخبة المسيطرة، هو خائن، في نظر هذه النخبة. لأن هذه النخبة ترى أن “الشرعية” تُكتسب بالغلَبة. وبالتالي، من يغلب، يحق له أن يدعي تمثيل الشعب. وهكذا، يدعي الأسد تمثيل السوريين، فيما يدعي الاتحاد الديمقراطي الكردي، تمثيل الأكراد، وكل المكونات العرقية في الجزيرة السورية.
لكن في حالة أخرى من توصيفات الخيانة. ونقصد هنا في أوساط الحاضنة الشعبية للثورة. يبدو أن تلك التوصيفات تعبير عن اختلاف في فهم المصلحة العامة. وهو ما ظهر جلياً في الجدل الذي نشط، في وسائل التواصل الاجتماعي، بين أوساط المعارضين، بعيد الحلقة الأخيرة من برنامج “الاتجاه المعاكس”، في قناة الجزيرة.
في تلك الحلقة، كان الضيفان يعبران بصورة جليّة عن رؤيتين متصارعتين في أوساط مؤيدي الثورة. فالعقيد عبد الحميد زكريا، عبّر عن رأي شريحة ترفض التفاوض، وتعتبره خيانة. وتنعت كل ساسة المعارضة المفاوضين في جنيف أو أستانة أو سوتشي مستقبلاً، بالخونة. فالتفاوض في نهاية المطاف، يعني الاستسلام، في فهم هذه الشريحة.
وبعيداً عن تشنج العقيد زكريا، ونبرته الخطابية، النابية في معظم الأحيان، كان هذا الرجل يعبّر تماماً عن رأي هذه الشريحة. لذلك لقي الكثير من المديح في أوساطها، عقب بث الحلقة. فقد عبّر العقيد زكريا عن المرتابين بساسة المعارضة، والمشككين بهم. أولئك الذين ما يزالون يراهنون على خيار الحسم الثوري المسلح، تحت عنوان “حرب العصابات”، هذه المرة.
فيما كان الضيف الثاني في الحلقة، الإعلامي المعارض، وائل الخالدي، نموذجاً عن شريحة أخرى واسعة أيضاً في أوساط الحاضنة الشعبية للثورة. تلك الشريحة التي تُحمّل الجهاديين، وفي مقدمتهم أولئك المحسوبين على “القاعدة”، وتحديداً “فتح الشام – النُصرة سابقاً”، مسؤولية الجانب الأكبر من مآسي السوريين الثائرين، بعد أن انحرفوا بالحراك الثوري إلى منحى لم يخدم تطلعات الثائرين الأوائل.
بل ذهب الخالدي إلى أبعد من ذلك، وأكد على نظرية رائجة في أوساط بعض المعارضين، مفادها أن تنظيم “القاعدة”، والقوى المسلحة المحسوبة عليه، وفي مقدمتها “تحرير الشام – النُصرة”، هي ذراع إيراني، يخضع لتوجيهات وتحكم طهران، وكانت غايته حرف الثورة عن مسارها، بالاتجاه الذي ذهبت إليه، بالفعل. أي أنهم بكلمات أخرى، خونة.
وهكذا، بدا الجميع في سوريا، خونة، في نظر الجميع. فأنصار النظام خونة في نظر أنصار الثورة، والعكس صحيح. وأنصار حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، خونة في نظر أنصار النظام والثورة، والعكس أيضاً صحيح. وفي أوساط أنصار الثورة، مؤيدو التفاوض خونة في نظر مؤيدي حرب العصابات والخيار المسلح، والعكس أيضاً صحيح.
لكن، لماذا وصل السوريون إلى هذه الحالة من التخوين الجماعي المتبادل؟، ببساطة، يجيب علماء الاجتماع السياسي، بأن ذلك نتيجة غياب الحد الأدنى من الإجماع العام للمجتمع. والإجماع العام هنا، هو حد أدنى من الفهم المشترك للمصلحة العامة.
في كتابه الشهير، “النظام السياسي لمجتمعات متغيرة”، يستخدم عالم السياسة الأمريكي، صموئيل هنتنغتون، مصطلحاً فريداً: “المتحد السياسي”. ويعتمده كركيزة لتحليل أسباب عدم الاستقرار السياسي في الكثير من بلدان العالم الثالث. مقابل استقرار سياسي مديد، في معظم بلدان العالم الأول.
هذه الركيزة في التحليل، تمكننا تماماً من فهم الحالة السورية الراهنة. بل أبعد من ذلك، تمكننا من تقديم فهم موضوعي للخيانة. فمع غياب “الإجماع العام”، لا يمكن استخدام توصيف “الخيانة” بصورة موضوعية. ويبقى استخدام هذا التوصيف، استخداماً سياسياً ودعائياً. أما مع وجود “إجماع عام” أو “متحد سياسي”، فإن كل خروج على ذلك الإجماع، هو خيانة، بالفعل، لأنه خروج على الحد الأدنى من الفهم المشترك للمصلحة العامة، الذي يُجمع عليه، مجتمع ما.
في الحالة السورية الراهنة. لا يوجد متحد سياسي أو إجماع عام. فالسوريون فئات، على صعيد فهم المصلحة العامة. كل فئة ترى المصلحة العامة من زاويتها. فالبعض يراها في الحكم الإسلامي، ويرى العالم بأكمله متآمراً ضد هذا الدين. فيما يراها البعض الآخر في الانسجام مع روح العصر وتجارب الآخرين الناجحة، مع حصر الإسلام بالبعد الروحي والقِيمي. ويذهب بعض آخر إلى أبعد من ذلك. لكن القاسم المشترك بين معظم السوريين، أنهم “صفريون”. أي أنهم لا يتقنون فن المساومة والحلول الوسط. وتظن كل فئة منهم أنها تمتلك القناعة الأكثر صوابية. وأن الغلَبة على شركائهم في الوطن هي الوسيلة الأفضل لتنفيذ رؤيتهم الخاصة للمصلحة العامة. وفرضها بالقوة على الشركاء في الوطن.
وهو عارض مرضي عانت منه الكثير من المجتمعات. وتجاوزته مع تطور الوعي السياسي والاجتماعي، باتجاه الاستعداد للحوار مع الشريك في الوطن، بحثاً عن نقاط تفاهم مشتركة معه، تكون قاعدة للإجماع الوطني. وهو تطور تحرّضه الثورات والحروب الأهلية، وتدفع باتجاهه، وإن بأثمان غالية.
لذا، حالما يتوصل السوريون إلى حد أدنى من الإجماع بينهم، حينها نستطيع أن نُعرّف الخائن في سوريا، بشكل موضوعي. فحينها، من يخرج على ذلك الإجماع، يكون خائناً، بالفعل. ويكون لدى السوريين متحد سياسي يسمح لمجتمعهم بتحقيق استقرار سياسي مديد.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :