حذام زهور عدي
لم يكن اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل مفاجأة صادمة لمعظم المتابعين لمواقف السيد ترامب وقنوات التأثير عليه، فقد كان تصريحه أثناء زيارته لإسرائيل يمهد لهذا الاعتراف بعد صفقته المشهورة في الرياض، غير مبالٍ بإحراج من ودعهم قبل سويعات وضمنوا له الإنجاز الاقتصادي الأهم في سنة حكمه الأولى، لكنّ الشعوب العربية بفضل أنظمتها كانت غارقة في مآسيها فلم تُلق بالًا لكلامه، فقد اعتادت على سماع ما يُشبهه من رؤساء أمريكيين سبقوه عندما كانوا يزورون إسرائيل ويكررون التعهد الأمريكي، دون أن يجرؤوا على مخالفة قرارات الأمم المتحدة المتكررة بعدم الاعتراف بشرعية احتلال القدس الشرقية وضمها للغربية لتكون عاصمة إسرائيل الأبدية.
ومن غير المفيد أن تتتالى مواقف السب والشتم على صفحات التواصل الإلكتروني أو من خلال الصحف والقنوات الممسرحة خصيصًا لمثل هذه المواقف، على طريقة “أشبعهم سبًا وراحوا بالإبل”، كما أن الشعب العربي لا يهتم كثيرًا بالأسباب التي دعت ترامب في هذه اللحظة لمثل هذا الاعتراف، سواء أكانت حاجته لدعم اللوبي الصهيوني لسلطته المرتبكة، أو حماقته الشخصية، أو الاستهانة بردود الفعل العربية والإسلامية، فقد تلقت الدول العربية صفعات قاتلة قبلها دون أن نلمس أي ردٍ حقيقي حتى من الشعوب، ولن يتوقع أحد بالطبع شيئًا من الأنظمة.
إن أهم سبب لوقاحة الموقف الترامبي هي سياسة ملالي إيران التي أدخلت المنطقة بحروب ونزاعات استنزفت قوتها البشرية والاقتصادية والعسكرية فلم تعد لها قوة يحسب العالم لفعلها حسابًا، وبكل تأكيد فإن أحد عوامل تجاهل رؤساء أمريكا السابقين لموقف الاعتراف هذا، بل رفضه علنًا في بعض الأحيان هو أن العرب كانوا مايزالون يملكون قوة مؤثرة سياسيًا واقتصاديًا في النظام السياسي العالمي.
ذاك أول ناتج لسياسات الملالي، أما الناتج الثاني، وهو ليس أقل خطرًا من سابقه، فهو التأثير النفسي على الشعوب العربية من خلال رفع الإعلام الإيراني لشعارات الممانعة والمقاومة، التي تتناقض كليًا مع تدميرسوريا والعراق والتي مارسوا أبشع المآسي تحت مظلتها، دون أن يصيب إسرائيل منها إلا الكلام المجاني.
وهكذا لم تعد الشعوب المدمَرة تميز بين ما تصنعه أيادي الملالي وأتباعها وبين ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين، بل كانت ترى تحالفًا موضوعيًا بينهما غير معلن، هدفه تدمير العرب وما يملكون من قوة، وكثيرًا ما كانت المقارنة في صالح الإسرائيليين ما دفع الرأي العام العربي إلى مواقف معاكسة كليًا لشعارات الممانعة والمقاومة، بل إن أنظمة عربية كانت تعادي إسرائيل على حَرْف، تمثل مركز القوة العربية تجرأت علنًا بالتعامل غير العدائي مع إسرائيل كرد فعل على الخطر الإيراني الشرس الذي يهدد سلطتها وبلدها.
يقف الشعب العربي اليوم مشلول الإرادة، ليس فقط أمام تصريحات السيد ترامب ولكن أمام رد فعل محور المقاومة والممانعة، الذي سيكتفي بتسييِر المظاهرات وإطلاق الأصوات عاليًا بالموت لإسرائيل وأمريكا، في الوقت الذي تستمر فيه براميلهم وحشدهم وصواريخهم تقصف الأخضر واليابس في السماء والأرض العربية. إن ردود الفعل النفسية لحروب الملالي كانت العامل الأهم في تسهيل إعلان السيد ترامب، وخفوت الاحتجاج عليه، ذلك الموقف الذي سيصب حتمًا في صالح شعارات الملالي الذين سيتاجرون به طويلًا.
تُرى لو أن الربيع العربي انتصر وتحولت بلدانه إلى ربيع الحرية والكرامة والتنمية ذي الخضرة الدائمة، هل كان لترامب أن يتخذ ذلك الموقف؟ أو هل كان لغيره من الحكام العرب المستترين بالشعارات أو غير المستترين، أن يتجاهلوه أو يُنسقوا معه سرًا كما يُشاع، هل كان له أن يحدث؟
إن انهيار الربيع العربي وتعمق مآسي صانعيه الأكثر وفاءً للقضية الفلسطينية والذين شكلوا الروافع التاريخية لها، كان سببًا مهمًا لما حدث وما سيحدث للقضية، ويبدو أن سياسة الملالي لن يوقفها ذلك الانهيار، إذ إن الخوف اليوم أن يبتزوا من خلال شعاراتهم الكلامية بعض حكام الخليج، ويقوموا بحملات إعلامية يُتقنونها لتجييش الرأي العام نصرة للقدس ضد من “تواطأ من الحكام وفرَط بالمقدسات وفق إعلامهم”، وربما يبادرون باستفزازٍ يُشعل حروبًا بينية أوضح من حروب الوكالات التي يمارسونها اليوم، وتكون النتيجة الحتمية احتلالًا وتقاسمًا للنفوذ بين إسرائيل وإيران ونهاية المشرق العربي كله.
في القضية الفلسطينية الدور الإيراني القذر في يد، أما في الأخرى فالحكام العرب الذين عمموا شعارهم المفضل، السلطة إلى الأبد أو نحرق الوالد والولد والناس والبلد، ذلك الشعار الذي فتح الأبواب للدور الإيراني والروسي والأمريكي والإسرائيلي ومن هب ودب من شذاذ الآفاق، والذي دمَر المجتمع والدولة وكل ما فيه بصيص حياة من أجل كرسي الحكم.
لم يفعل ترامب، على أهمية فعلته الدبلوماسية والقانونية، أكثر من أنه تجرأ علنًا أن يعترف بما كان يُمارس سرًا وعلانية من الدعم الأمريكي، لكن الأعجب والذي يلفت الانتباه أكثر هو الحملة الإعلامية والفتاوى الدينية ببراءة إسرائيل من دم الفلسطينيين وباكتشافهم الفجائي تطويب الآيات القرآنية فلسطين لليهود، وحقهم التاريخي بها، تلك الأفكار التي لا نسمعها إلا من غلاة الصهاينة، ملأت فجأة مواقع التواصل الإلكتروني وصدحت بها حناجر كانت بالأمس القريب تُظهر عداء لإسرائيل وتبنيًا للقضية الفلسطينية وتتفنن بإظهار الخطر الإسرائيلي على الأمة كلها وعلى رأسها بلدانهم، وكأن الحملة الإعلامية هذه كانت تمهيدًا لإعلان ترامب وتبريرًا له.
إن ما يحدث إعلاميًا في هذا المجال أكثر خطرًا بما لا يُقاس من خطوة ترامب، فقد نفهم تجاهل الأنظمة العربية الأكثر تأثيرًا على القضية الفلسطينية للخطوة الأمريكية استنادًا لما يُحيط بها من ظروف، أما أن تُجيَش الشعوب باتجاه التسليم لأقدار إلهية حكمت لإسرائيل بفلسطين، ثم تحمل الفلسطينيين وزر مأساتهم فتلك -والله- قاصمة الظهر، والمستغرب أكثر أن مثل هذا الكرم الحاتمي مع إسرائيل يأتي مجانًا دون أي مكاسب تُقابله، إلا إذا اعتبرنا النكاية بالدور الإيراني أو الوعود بتخليد البقاء على كراسي الحكم، هي المكاسب الكبرى التي يرى أصحاب الأمر أن كل شيء يهون في سبيلها. والمضحك المبكي أن من أجل تلك المكاسب أيضًا تعمد الجهة المقابلة للإعلان المبالغ فيه يوميًا عن أسماء المتعاملين مع إسرائيل ومناصبهم بغرض تعريتهم وفق تقدير سياسييها متجاهلين النصيحة المهمة “إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا”، حتى لا تشيع الفاحشة.
في هذا الظلام المعمم لم يبق من آمال عربية سوى أن تستعيد الثورة السورية بعض قوتها، فهي عتلة الانهيار وهي عتلة الصمود والنهوض، وإن كان من أمل أيضًا فهي في انتفاضة شعبية عارمة فلسطينية تلوح اليوم بالأفق، تنهي تخاذل القيادة الفلسطينية، الشمالية والجنوبية، والانقسام غير المبرر الكامن خلفه، وتسمح للشعب الفلسطيني باستعادة قراره واستعادة بطولات الانتفاضة الأولى، وتكون محركًا جديدًا لربيع عربي طال انتظاره، إن حدث ذلك فيكون اعتراف ترامب قد قدَم للأمة العربية الهدية المُثلى، مُحققًا مصداقية المثل المشهور”رب ضارة نافعة”، وبغير ذلك ستستمر المآسي ويفرد طائر الموت أجنحته على الخريطة العربية كلها فلا ينجو منه ساكنٌ فيما بين المحيط والخليج.