انضم أمس إلى لائحة الأرقام المتصارعة في لبنان العدد الذي أعلنته لجنة الحوار اللبناني- الفلسطيني للاجئين الفلسطينيين في لبنان. وهو أقل من نصف الرقم المتداول السابق الذي يقدر هؤلاء بما يتراوح بين 400 و450 ألف لاجئ.
حددت اللجنة في اللقاء الذي عقدته في السراي الحكومي عدد اللاجئين بـ174422. بيد أن للأرقام في لبنان معاني مختلفة عن تلك السائدة في أنحاء العالم، خصوصاً أرقام السكان وتوزعهم على المناطق، والأهم من ذلك، الطوائف التي ينتمون إليها. وفي بلد تحتل فيه الديموغرافيا موقعاً مقرراً في الأيديولوجيات التي تتبناها الأطراف المختلفة، يكتسب الرقم قيمة إضافية. وليس سراً أن السلطات تمتنع عن إجراء إحصاء عام للسكان منذ أكثر من ثمانين عاماً (أحصى الانتداب الفرنسي السكان آخر مرة عام 1932، كما هو معروف)، خشية أن تسند الطوائف مطالبها بزيادة حصصها التمثيلية بعدد المنتمين إليها. كان إخفاء عدد السكان «سراً معلناً» بين استقلال عام 1943 وبين اندلاع حرب 1975. المسلمون كانوا يعرفون أنهم هم الأكثرية العددية خلافاً لنتائج الإحصاء القديم ويطالبون بتعداد للسكان، والمسيحيون يحاولون الاختباء من هذه الحقيقة من خلال عرض الجنسية اللبنانية على كل من يرغب من المسيحيين العرب.
هذا ماضٍ طواه اتفاق الطائف الذي جدد التوافق (التواطؤ؟) اللبناني على تناسي مسألة الأرقام والأعداد كنوع من إظهار النية الحسنة عند المسلمين وعدم تطلع هؤلاء إلى انتزاع المناصب السيادية من المسيحيين. غير أن ذلك لم يحل دون الاستمرار في استخدام توطين الفلسطينيين فزاعة تارة في يد نظام الوصاية السوري وتارة في يد بعض القوى المسيحية المنخرطة في لعبة الذعر الديموغرافي والخوف من الذوبان في بحر المسلمين، لاستخراج نفوذ وقوة سياسية ومادية. والحق يقال إن جميع الطوائف تمارس هذه اللعبة حين تبرز فوائدها.
لكن هل سيمحو العدد الجديد والصغير نسبياً للاجئين الفلسطينيين الرعب من الفناء والتوطين؟ طبعاً لا. فإن تناقص اللاجئون الفلسطينيون بفعل الهجرة إلى بلدان أكثر ترحيباً بهم ولا تستهدفهم كعدو جماعي اتفق اللبنانيون على تحميله وزر الحرب الأهلية، حلّ مكانهم اللاجئون السوريون بأعدادهم التي ترتفع وتنخفض وفق الاستخدام الأداتي للسياسيين اللبنانيين. وهؤلاء، للصدفة ولسوء حظ اللاجئين، من ذات دين ومذهب نظرائهم الفلسطينيين. أي أنهم، وفق الرطانة الأيديولوجية السائدة، يهددون التوازن الطائفي في لبنان.
عليه، سيظل باب استغلال مواضيع التوطين والخوف الديموغرافي والابتزاز المتبادل بين الطوائف مفتوحاً على مصراعيه. وستضاف إليه مصطلحات أكثر قابلية للتسويق في الداخل والخارج عن «الإرهاب» و «التطرف التكفيري» وأهمية فتح الأوروبيين والأميركيين والعرب صناديقهم لتغرف منها السلطات اللبنانية التي تنزعج أشد الانزعاج من كلمات مثل الرقابة والشفافية والمساءلة التي يتعين عليها الخضوع لها.
يرتبط هذا المناخ بطبيعة السياسة في لبنان التي لا تعترف بالمواطن بالتالي بمبدأ المواطنة، وترى أن العنصر الأساس المكون للاجتماع السياسي هو الطائفة وليس الفرد. وبذلك، يظهر اللاجئون كسلاح يُرفع في المنازلة الطائفية الدائمة. تغييب الإحصاءات وأرقامها يبدو في هذه الحال ضرورة وجودية يهدد كشفها بزعزعة الانتظام العام. وإذا ظهر ذات يوم أن أعداد اللاجئين السوريين أقل من أن يجري استغلالها في بازار المزايدات اللبنانية، على ما حصل مع الفلسطينيين، سيجري اختراع خطر ديموغرافي آخر، محلي أو خارجي. العرض مستمر!